أبحاث

أسلوب بولس الدفاعي للبلوغ إلى جيل ما بعد الحداثة هذا

أسلوب بولس الدفاعي للبلوغ إلى جيل ما بعد الحداثة هذا

أسلوب بولس الدفاعي للبلوغ إلى جيل ما بعد الحداثة هذا
أسلوب بولس الدفاعي للبلوغ إلى جيل ما بعد الحداثة هذا

أسلوب بولس الدفاعي للبلوغ إلى جيل ما بعد الحداثة هذا

طوال الوقت الذي كان للمسيحية فيه تأثير فعال في حضارة الغرب، حتى إن اجماعاً مسيحياً عاماً كان سائداً عند الشعب حيال طبيعة الحق والقيم. كان الدفاع المبني على الفرضيات المسبقة التي سلمت بالكامل بمصداقية الكتاب المقدس وبموثوقيته. كان هذا الصنف من الدفاع يمارس في العديد من أوساط الكنيسة. لكننا بدأنا نشهد حقيقة رفض هذا الجيل ما بعد الحداثة من البشرية، في غالبيته، للكتاب المقدس بصفته كلمة الله ولمفاهيم المسيحية للحق المطلق، وتركيزه بالمقابل على العقلانية كأحد المستلزمات الضرورية لاكتساب المعرفة، ولا سيما على النطاق الديني، إلى جانب تبنيه المنحى العلمي لاكتساب الحق والقيم. في ضوء كل هذا، أصبحت الكنيسة أمام حالة جديدة. وقد تطرح في هذه الحال الأسئلة: المدافع المسيحي الملتزم نظام الدفاع الكتابي والمبني على فرضيات مسبقة مسلم بصحتها، ألا يلزمه الآن التعديل في منهجه، إن لم نقل التخلي عنه بالتمام، من أجل مخاطبة المتطلبات العملية لهذا العالم ما بعد الحداثة؟ ألا يحتاج، على الأقل، إلى إدخال بعض التعديلات الرئيسة على أسلوبه الدفاعي مع استعداده لمواجهة الناس اليوم بالحجج المبنية على الدلائل لكي يتمكن من اجتياز الامتحان العلمي الدقيق بنجاح، إن كان يتوقع البلوغ إلى هذا الجيل؟ أنا أجيب عن هذه الأسئلة بـ “لا” قاطعة؛ حقاً، أومن أن أسلوب الدفاع الكتابي لا يزال ضرورياً كأي وقت مضى، لبلوغ هذه الجيل ما بعد الحداثة. وفي هذا الفصل الختامي، سأعرض موجباتي وراء تصريحي هذا. لكن في إطار قيامي بهذا، وحيال هذه المعطيات الجديدة، سأحاجج أيضاً في حاجتنا إلى التحلي بقدر أكبر من الحكمة، في معرض دفاعنا عن مصداقية الإيمان المسيحي بالله. وسأبدأ بسرد قصة واقعية حصلت معي.

خلال السنين الطوال التي قضيتها في التدريس في كلية اللاهوت “كوفنانت”، كان لي الامتياز العظيم بأن أعرف وأعمل جنباً إلى جنب مع د. “فرانسس شايفر”، مؤسس L’Abri “الملجأ” في “هويموز” سويسرا، كزميل في الجسم التعليمي. كان قد اعتاد أن يقبل إلى الكلية سنوياً لكي يعلم على مدى نحو الشهر الواحد. كان ينقل إلى التلامذة مفهومه للحضارة الغربية مع السبيل لتوصيل إليها رسالة المسيح. ذات مساء، نحن المدرسين المقيمين داخل حرم الجامعة، دعونا د. “شايفر” إلى تناول طعام العشاء معنا في مطعم محلي – جهنم المتقدة، إن كنت لا أزال أتذكر الاسم الصحيح لهذا المطعم (يا له من مكان غريب لجمع حفنة من اللاهوتيين الكتابيين – جهنم المتقدة!) ومن جملة الأمور التي دار حولها حديثنا في تلك العشية، نقله إلينا عزمه، بعد الانتهاء من تكليفه الحالي، التوجه إلى جامعة “يال”، للتكلم إلى التلامذة داخل قاعة الاجتماعات هناك. خلال جلوسي قبالته مباشرة، سألته: “كيف حصلت على هذه الدعوة، يا د. “شايفر”؟” أعلمنا كيف أن القسيس النشيط جداً للشركة المسيحية “إنتر فارستي”، كان قد قصد قسيس جامعة “يال”، “وليم سلووان كوفن” وخاطبه بالقول: “تأتون إلينا بأناس غريبي الأطوار من جميع الأصناف للتكلم إلى تلامذتنا داخل قاعة الاجتماعات. ما رأيكم بدعوة واحدة من غريبي الأطوار من صفوفنا نحن الإنجيليين للتكلم؟” وعلى هذا الأساس، قدم له “كوفن” الدعوة. من ثم سألت د. “شايفر”: “أنت تعلم جيداً أنه على الأرجح لن يصار إلى دعوتك ثانية في القريب العاجل. بماذا تنوي أن تعظهم؟” المعلم بامتياز د. “شايفر” سألني على الفور: “ماذا تقترح عليّ أنت يا “بوب”؟ “أجبته: “لست متأكداً، لكن ما رأيك بعظة حول يوحنا 3: 16؟” قال لي: “كلا، لأن تلامذة “يال” في معظمهم لن يفهموا أي شيء إن فعلت ذلك. يعوزهم الإطار الذي يصلح كمرجع لوضع التعليم من يوحنا 3: 16. لذا، أنوي الطلب منهم فتح الكتب المقدسة المتوافرة على المقاعد أمامهم على تكوين 1. سأقرأ لهم قصة التكوين وأخبرهم عن هويتهم وعما هم عليه فعلاً”. قلت له: “أيها الدكتور “شايفر” ما إن تعلن عن نصك، حتى سيبلغك بصوت عال تقريباً صوت أذهان التلامذة وهي تقفل في كل أرجاء القاعة”. رد عليّ د. “شايفر” بالقول: “ربما، لكن من أجل هذا الغرض بالذات أريد أن آخذهم إلى تكوين 1”. قلت: “لكن لن يبقى لديك الوقت للكرازة بالإنجيل إن فعلت ذلك”. أجابني هذا صحيح، لكن قسيس الإنتر فارستي” قد يعني بذلك قد ذهابي. لكن التلامذة يا “بوب”، من كانت قد تشبعت أذهانهم طوال حياتهم بالتعاليم عن النشوء والارتقاء، والوجودية، والحركة الإنسانية الدنيوية خلال فترة تعلمهم في المدارس العامة، من الضروري تذكيرهم بما هم يعرفون من قبل في قلوبهم أنه حق عن أنفسهم، كونهم أناساً خلقهم الله على صورته. ففي هذه الحقيقة بالذات، تكمن قيمتهم الحقة، الأمر الذي يجعلهم بالتالي مسؤولين أمام الله، ويلزمهم اتخاذ قرارات مسؤولة بما أنهم سوف يحاسبون أمامه ذات يوم إن كانوا لا يعيشون لأجله. فبعد اقرارهم بكونهم مخلوقين، عندئذ فقط يصبح “للأخبار السارة” من يوحنا 3: 16 معنى في نظرهم”. هذا الحوار دار بيننا قبل ثلاثين سنة. وإن كانت كلمات “شايفر” هذه في محلها حينذاك، فكم بالأكثر تصلح لأيامنا الحاضرة؟

كان “د. أ. كارسن” ليوافق “شايفر” الرأي، ذلك لأنه في مقاله “Athens Revisited” (“زيارة أثينا من جديد”) يكتب ما يلي:

في الماضي القريب، على الأقل في أميركا الشمالية وأوروبا، كان التبشير بمثابة عرض هجومي إلى حد ما لجزء صغير فقط من رواية الكتاب المقدس. كان يجمع بين معشر غير المسيحيين الذين عرضنا عليهم الإنجيل في معظمهم، وبيننا القدر الكافي من اللغة المشتركة والنظرة الواحدة حتى لم نكن نجد من الضروري أن نبسط أمامهم رواية الكتاب المقدس بأكملها. قبل مجرد ربع قرن من اليوم، إن كنا نتعامل مع ملحد، لم يكن من الذين يجهلون الكل عن الله، بل كان بالحري ملحداً مسيحياً. بكلام آخر، فالله الذي لم يكن ليؤمن به كان نوعاً ما إلهاً يتميز لديه على أنه من أصل يهودي – مسيحي فالملحد لم يكن لينكر على نحو خاص، وجود آلهة الهندوس – ربما “كريشنا” – بل بالحري وجود الله. إله الكتاب المقدس. لكن هذا يعني أن الفئات كانت لا تزال فئاتنا، ونطاق الحديث نطاقنا.

[ثم يتابع] عندما كنت فتى، كان التبشير يفترض مسبقاً أن غالبية غير المؤمنين، سواء أكانوا ملحدين أو لا أدريين أو من المؤمنين بالله الخالق الذي لم يعد يتدخل بشؤون هذا الكون، أو من المؤمنين ظاهرياً بإله الكتاب المقدس، جميع هؤلاء يعرفون جيداً أن الكتاب المقدس يبدأ من الله، وأن الله هو شخصي ومتسام، وأنه صنع الكون وصنعه حسناً، وأن السقوط هو الذي أدخل الخطيئة وجلب اللعنة. كان لك واحد تقريباً على علم بأن الكتاب المقدس يقع في عهدين، وأن التاريخ يتبع في سيره خطاً مستقيماً، وأن ثمة فرقاً بين الخير والشر، وبين الحق والباطل، وبين الحقيقة والضلال، وبين الواقع والخيال. عرفوا أن المسيحيين يؤمنون بوجود سماء يجب الفوز بها وجهنم يجب خشيتها. يعرفون أن عيد الميلاد مرتبط بولادة يسوع. فيما الجمعة العظمية والفصح بموت يسوع وقيامته. تلك كانت المعطيات. من هنا كان تركيزنا في التبشير على خطورة الخطيئة، وحرية النعمة، وهوية يسوع الفعلية، وعن المغزى وراء موته، والدعوة الملحة إلى الإيمان والتوبة. ذاك كان التبشير… وبالنسبة إلى معظمنا، كان التبشير يرتبط بالإفصاح عن جزء صغير جداً من الرواية الكتابية، والتركيز عليه[1].

ما الذي حصل حتى تغير كل هذا؟ لماذا على المسيحيين الإنجيليين في أميركا عدم افتراض أن جيل الناس الذي يخاطبونهم اليوم، بالإمكان تبشيرهم كما في الماضي؟ الأسباب عديدة وراء ذلك، لكن الأسباب الخمسة الرئيسة هي التالية[2]:

ç السبب الأول يعود إلى مرسوم الهجرة والتجنيس لعام 1965 الذي ألغى أنظمة الحصص النسبية السابقة لمرسوم الهجرة لعام 1924 الذي كان يحظر على من ليسوا من بلاد الغرب حصولهم على الجنسية. هذا المرسوم أصدر قوانين جديدة مشرعاً الباب أمام هجرة الآسيويين. ضم هؤلاء فيما بعد أناساً من جذور لاتينية إلى جانب رعايا من الشرق الأوسط وفيما كان نحو 90٪ من المهاجرين في القرن التاسع عشر، قد أتو من أوروبا، لهم بالتالي بعض الشبه بالمسيحية (من الكاثوليك الرومانيين بشكل رئيس)، نحد خلال الفترة الممتدة بين 1981 و1990 كيف أن من جملة 1,031,620 مهاجراً الذين أقبلوا إلى هذه الشواطئ، كان 15٪ من جملتهم فقط أوروبيين و70٪ آسيويين وشرق أوسطيين الذين جلبوا معهم دياناتهم الشرقية إلى جانب الإسلام. وفي التسعينات من القرن العشرين، 43٪ من المهاجرين كانوا آسيويين و39٪ من أميركا اللاتينية؛ وكان هؤلاء قد جلبوا معهم تعاليم الكاثوليكية الرومانية. يعد اليوم المتحدرون من جذور لاتينية الأقلية الأكبر عدداً في الولايات المتحدة الأمريكية، كما أن عدد المسلمين في أميركا بات يفوق عدد اليهود فيها. ونتيجة لذلك، تشهد أميركا اليوم ضمن حدودها أكثر من 1500 ديانة مختلفة، كما أن المدارس العامة الأميركية تعلم تلامذتها ضرورة التحلي بالتساهل والتسامح مع الديانات كافة وعدم الاعتقاد أنه يلزم إيلاء أية واحدة منها أفضلية أو اعتبارات خاصة. خلفت الهجرة بصماتها على الحياة الأميركية حتى باتت أميركا اليوم الدولة الأكثر تنوعاً دينياً في العالم. وبذلك تعد الولايات المتحدة حقلاً إرسالياً كأي حق آخر، تبعث الكنائس إليه مرسلين.

ç السبب الثاني هو أن جيلاً كاملاً من التلامذة الغربيين قد جرى إطعامهم وبالتالي اشباعهم جرعات هائلة من التعاليم العلمية للحركة الطبيعية (النشوء والارتقاء)[3]، والوجودية الفلسفية (إنكار وجود أي حق في المطلق. والتسليم بالحق كأمر نسبي)[4]. والصوفية الشرقية (هذه، لا المسيحية، مسموح تعليمها في المدارس العامة الأميركية)، والحركة الإنسانية الدنيوية (التساهل مع كل نظرة دينية) في مدارسهم العامة[5] وجامعاتهم. كما أن كل ذلك جاء لتدعمه الثورة الجنسية في الستينيات من القرن العشرين وحتى يومنا هذا.

ç السبب الثالث هو ظهور الإنترنت، والذي أضاف بعداً جديداً بالكامل على السبيل لنشر المعلومات، والحصول عليها، والتعامل معها. وبذلك لم يعد الشخص العادي يشعر بحاجته إلى التطلع إلى أناس لهم سلطة ضمن دائرته الجغرافية والثقافية لسد احتياجاته أو لما يرغب في معرفته. وفي حال احتاج أو أراد معرفة شيء ما، عند الميل إلى الاعتقاد أن بوسعه استقاء المعلومات بنفسه من خيارات لا حدود لها تقريباً من مصادر الإنترنت.

ç السبب الرابع هو القيود التي فرضتها محكمة الدولة العليا على معلمي المدارس العامة المسيحية، الذين كانوا سيقدمون تعليماً دينياً لتلامذتهم، لو سمح لهم فقط بذلك.

ç السبب الخامس هو إخفاق الكنيسة الإنجيلية بالكامل تقريباً عن إدراك ما هو حاصل في هذه المجالات على مدى جيل، من أجل شن هجوم مضاد وفعال. في الواقع، عوضاً عن اجتهاد الكنيسة لمد هذا الجيل بجنود مسيحيين “ضليعين من الأسفار المقدسة، أصحاب مواقف صلبة وثابتة في الإيمان، تحركهم محبة لله وللإنسان، يعرفون شؤون هذا العالم، والجسد والشيطان، ملمين بتصرفات الأخوية المسيحية الصادقة، يعيشون في ظل اليوم الأخير، ومعززين بالقوة لإنكار النفس وحمل الصليب من أجل انجاز أمور عظيمة للمسيح وللملكوت” (روبرت س. رايبرن) – عوضاً عن إقدام الكنيسة، أنا أقول، على تجهير هذا الصنف من المسيحيين “الذين ليسوا من هذا العالم” والموطدي العزم والمستعدين على أكمل وجه لخوض المعارك الروحية، تركت أولادها على مدى جيل الآن ينزفون في العالم، حتى تخلت أعداد غفيرة منهم عن الإيمان للفوز بالمقابل بما لدى العالم ليعرضه عليهم. لماذا حدث ذلك؟ توثق ذلك رواية “تم ولف” تحت عنوان I am Charlotte Simmons (“أنا شارلوت سمونس”). إنها قصة شابة لامعة، جميلة وطاهرة لكن ساذجة تركت بيتها في جبل “الأبلاش” طلباً لثقافة من نصيب “النخبة” وحدهم في إحدى “أعظم” جامعات أميركا. روايته هذه، كما يعلمنا، مبنية على أبحاث أجراها داخل حرم خمس من أشهر الجامعات (“ستانفورد”، “ميتشغان أت آن أربر”، “نورث كارولاينا أت تشابل هل”، “ألاباما إن هانتسفيل”، و”فلوريدا أت غاينسفيل”. لكن التركيز عليها يفوتنا النقطة التي أراد “ولف” نقلها إلينا. اختر بشكل عشوائي أية خمس جامعات دنيوية، وستسفر عن ذلك النتائج عينها، الأوصاف الرهيبة التي عرضها “ولف” ليس بصورة كاريكاتورية، ولا بخيال، لكنها بالحري وصف لواقع الشر، والابتذال والفساد المنتشر في كل مكان والذي:

“… يملأ قاعات التدريس، الواحدة تلو الأخرى لجهة كل من مضمون التعليم وأسلوبه. كما أن هذا يؤثر في أخلاق الجسم التعليمي. إنها تملأ حياة التلامذة الاجتماعية، قاطعة بالنسبة إلى معظمهم أية صلة لهم بحياتهم الأكاديمية والفكرية. الفساد يعم أماكن السكن، وقد وصفها السيد “ولف” بكلام منفر يمجه الذوق السليم. الفساد يملأ البرنامج الرياضي. وهو يبلغ حتى إلى سياسي الدولة الذين يلقون خطابات داخل حرم الجامعة وإلى المسؤولين عن الأعمال القاصدين الجامعة من أجل توظيف خريجي الجامعة. لكن الفساد يعم فوق كل شيء التلامذة أنفسهم – طموحاتهم، أخلاقهم اليومية، وكلامهم. الشبان قد استفحل فيهم الفساد حتى لا تريد لإحدى الشابات الاقتراب منهم. بالمقابل، الشابات فاسدات جداً حتى لم يعدن أهلاً لحمايتهن أو الدفاع عنهن…”[6]

أما بالنسبة إلى “شارلوت”، فبينما كانت أمها التي ترتاد الكنيسة مقتنعة بأنها أعدت ابنتها لمواجهة كل هذا ببساطة من خلال قدرتها على السيطرة على عواطفها ورباطة جأشها ولسان حالها: “أنا لا أومن بك هذا، لن أفعل ذلك. فعلى كل حال، أنا “شارلوت سمونس”، وأعرفي من أنا، ولا حاجة لي إلى الذهاب إلى هناك”. سرعان ما نكتشف أنها “بعيدة كل البعد عن امتلاكها في داخلها الموارد الكفيلة بجعلها تصمد… أمام كل ما يسعى لإفسادها”، الأمر الذي ينطبق كثيراً عليها. يكفي ما قلناه حتى الآن. والآن، يسأل “جويل بلز”:

“…إن كان مشهد الجامعة الدنيوية المعاصرة يبلغ حتى نصف ما يصفه به “تم ولف” لجهة فساده وتشبهه بسدوم، لماذا يحظى هذا المشهد برعاية بعض العائلات المسيحية القليلة، ويفوز بنسبة أقل برضى المئات بل الآلاف [من الأهل المسيحيين] الذين يرسلون أبناءهم وبناتهم إليها لأجل “تثقيفهم” بواسطة هكذا قوى مدمرة؟”.

والجواب هو: لأنهم يريدون أن يكون أولادهم “ناجحين”، ويحصلوا على أفضل الوظائف، ويحصلوا أكبر قدر من المال، ما يمكنهم من العيش في “حياة رفيعة المستوى”. معظم هؤلاء الأهلين سوف تروعهم بالمقابل، معرفة كون ولدهم تراوده فكرة الالتحاق بالخدمة المسيحية في الحقل الإرسالي.

نتيجة لهذه التأثيرات الخمسة في المجتمع الغربي، فقدت الكنيسة فعلياً جيلاً بأكمله من الناس. جيل الأولاد والعديد من تلامذة المدارس والجامعات اليوم، لم يعودوا يعرفون ولا حتى أكثر الحقائق الأساسية في الكتاب المقدس، كتلك المتعلقة بإبراهيم، وداود وسليمان وبولس، كما إنهم يعرفون بنسبة أقل بكثير هوشع، أو صفنيا، أو حجي. إلى ذلك.

ليسوا هم بألواح بيض ينتظرون منا أن نكتب عليها. ولا هم بمثابة أجهزة كومبيوتر فارغة لكي نحملها ملفاتنا المسيحية. لكنهم طوروا لأنفسهم مجموعة بديلة من النظرات إلى العالم. إنهم بمثابة أجهزة كومبيوتر ملآنة بالعديد من الملفات الأخرى التي تشكل معاً مرجعيات متنوعة غير مسيحية[7].

لم يعودوا يعتقدون أن لهذا الكون هدفاً، لكنه في نظرهم “أشبه باللغز” المليء بالصدفة والأمور الغريبة التي قد تشمل حتى أيضاً قيامة الأجساد. لم يعودوا يؤمنون بأن التاريخ إنما يعكس “الصورة الكبرى” للكتاب المقدس أو “الرواية الكبرة” أو كونه يسير في “اتجاه معين”. وكل هذا بات يصح على أعداد متزايدة من اللاهوتيين المعاصرين أيضاً، كما سبق لي أن صرحت بذلك في كتابي A New Systematic Theology (“لاهوت نظامي جديد”):

اللاهوتيون ما بعد الحداثة، كما باتوا يعرفون، صار لهم الآن بعض الوقت يشددون على ضرورة احترام الكنيسة للغموض ورفض كل المحاولات لصياغة رؤية سينويتية أو “نظامية” إلى الأمور. بكلام آخر، [على الكنيسة] الإقرار بعدم وجود أية “صورة كبرى” ومقررة سابقاً لأي شيء يجب اكتشافه. “لذا يكتفون بالقول: “حسبك أن ترسم صورتك الخاصة بك، وذلك في غياب أية صورة كبرى لاكتشافها”. بالطبع، يرفض هؤلاء الدارسون إدراك كيف أن إقرارهم: “لا وجود لصورة كبرى”، يشكل بحد ذاته صورة كبرى لها أمورها الخاصة بها لجهة لاهوتها، ونظرتها إلى كل من الكون، والإنسان، والمسيح، والخلاص، والأمور الأخيرة. لكن المشكلة مع صورتهم الكبرى هي تبعثرها، وعدم تماسكها، وإخفاقها في استيعاب حتى الطريقة التي بها يعمل العالم فعلياً[8].

إن انعكاسات كل هذا على علم الدفاع وعلى التبشير، هائلة وواضحة. لنتأمل في ثلاثة من جملتها:

أولاً، علينا النظر بأكثر جدية مما فعلنا في الماضي إلى حقيقة كون الناس الذين نسعى للبلوغ إليهم، عندهم بعض المواقف الجوهرية التي يترتب عليهم التخلي عنها لكي يصبحوا مسيحيين.

في معرض مواصلتنا للتشابه الجزئي مع الكومبيوتر، لقد احتفظوا لأنفسهم بالعديد من الملفات التي يترتب عليهم محوها أو مراجعتها، لأن هذه الملفات كما هي عليه، تتضارب بشكل فظيع مع الملفات المسيحية. [بالطبع، لطالما صح هذا دائماً بعض الشيء، لكن ليس بالمقدار نفسه كما هي الحال اليوم]. لكن كلما قلت القواسم المشتركة حيال النظرة إلى العالم بين “المبشِر” و”المبشَر”، وبين المسيحي الضليع كتابياً والشخص من جيل ما بعد الحداثة الذي هو أمي كتابياً، كان التحول أشبه بالصدمة العارمة. والتغيير جذرياً. وازدادت المواد التي ينبغي التخلي عنها[9].

ثانياً، بما أن الأمور هي هكذا، علينا نحن الذين نبغي تبشير جيلنا أن نكون جاهزين للبدء في ذلك من أماكن أبعد. يحسن “كرنيليوس فان تل” من خلال ملاحظته ما يلي:

علينا جعل رسالة الصليب ضمن إطار [الأسفار المقدسة ككل]. إن لم نفعل هذا، فلا نكون كارزين فعلاً بيسوع والقيامة. فالحقائق الخاصة بيسوع والقيامة هي ما هي ضمن إطار عقائد الخلق، والعناية الإلهية، وانتهاء التاريخ بالدينونة الأخيرة[10].

لن يشهد الإنجيل تماسكاً ما لم تحتل بعض المداميك اللاهوتية مكانها، مشكلة بذلك إطاراً مرجعياً يجعل كلماتنا ملموسة. يكتسب الإطار الأوسع والأشمل للإنجيل أهمية بالغة، فهو الذي يجعل معنى للحقائق الإفرادية. فحقائق الإنجيل تبقى بمعزل عن موقعها الكتابي بمثابة أمور غريبة حدثت من طريق الصدفة داخل “كون غامض وأشبه باللغز”.

لن تستطيع أن تستوعب يسوع الفعلي على حقيقته ما لم تتوافر لديك أقوال تخص الله، إله الكتاب المقدس الشخصي/ والمتسامي، إلى جانب طبيعة الكائنات البشرية المخلوقين على صورة الله، ووصمة العار الفظيعة المتمثلة بالتمرد عليه؛ واللعنة التي تسبب لنا بها تمردنا؛ والنتائج الوخيمة التي ترتبت على تعدياتنا على شتى الأصعدة الروحية، والشخصية، والعائلية، والاجتماعية؛ وطبيعة الخلاص؛ وقداسة الله مع غضبه ومحبته. لا يستطيع أحد فهم الرواية الكتابية بمعزل عن هذه المحتويات الأساسية. كما أنه لا يستطيع أحد فهم الصورة التي يقدمها الكتاب المقدس عن يسوع قبل وضع هذه المداميك في مكانها. لا يستطيع أحد الموافقة على الحل الذي يعرضه يسوع إن لم يوافق أولاً على المشكلة التي تواجهه[11].

هنا السبب وراء رؤية أحدنا العالم يتجاوب مع الملصق المسيحي المكتوب عليه: “المسيح هو الجواب”، ويلي ذلك العبارة التي يلحظها الملصق عينه: “ما هو السؤال؟” بكلام آخر، لا يعرف العالم ببساطة ملابسات الرواية حيث يجعل الكتاب المقدس البشارة. وعليه، لا يفهم العالم لماذا أو كيف يسوع هو أو قد يكون الجواب عن أي شيء.

ثالثاً، على المبشر أن يشق طريقه إلى داخل قلوب الذين يبشرهم، وإلى أنظمة قيمهم وأنماط تفكريهم – بكلام آخر – إلى نظراتهم إلى العالم. يحتاج إلى مد جسور إلى داخل… الإطار المرجعي [للذين يتم تبشيرهم]، وإلا استحال حصول أي تواصل بينهما، وإلا وجد المبشر نفسه منزوياً في زاوية بمفرده”[12].

أشعر بأن عليّ التصريح بالمناسبة بأن لا أحد نظير “فرانسيس شايفر” تمكن من الولوج إلى داخل ذهن الشخص ما بعد الحداثة. فهو من خلال إصراره أولاً على حث الإنسان ما بعد الحداثة على العيش بانتظام بموجب نظرته إلى العالم، أرغمه من خلال ما دعاه “أسلوبه السابق للتبشير” على اختبار ما يرتبط به من سخافة ويأس والإقرار بذلك.

كل هذا، كان الرسول بولس قد أدركه جيداً: ففي إطار المجمع، كان يقتبس نصوصاً من العهد القديم، كما نفعل نحن من خلال اقتباسنا الأسفار المقدسة أمام معشر غير المسيحيين من الجيل الأقدم. أما في أعمال 17: 16-34، فنجده منكباً على تبشير أناس مثقفين كانوا أميين بالتمام لجهلة معرفتهم الكتابية. ففي هذه الحالة الأخيرة، بشر بطريقة مختلفة – بشكل بارز – وهذا النص عنده الشيء الكثير لتعليمنا في معرض سعينا لتبشير هذا الجيل من الأميين كتابياً. حقاً، لا يكون أحدنا بعيداً عن الحق، في نظري، في حال استخلص أن الروح القدس قاد لوقا لتدوين الأريوباتيغا في سفر أعمال الرسل، خطاب بولس هذا الذي ألقاه على تلة مارس، خصيصاً لزمان كهذا! لذا، أبغي تخصيص بعض الوقت للتأمل في مضمون هذا الخطاب معكم الآن.

في أثينا، بولس “احتدت روحه فيه، إذ رأى المدينة مملوءة أصناماً” (أعمال 17: 16). حقاً كانت أثينا تزخر بالتماثيل المنحوتة “للبنتيون” الإغريقي، ما دفع واحد من الكتاب الأقدمين إلى التصريح بأن تماثيل الآلهة في أثينا، فاق عددها تلك الموجودة في كل اليونان مجموعة. كما أن “بترونيوس”، الهجاء الروماني، اعتبر أن مقابلة تمثال كان أسهل من مقابلة إنسان[13]. وحتى شيدوا مذبحاً “لإله مجهول” (أغنوستو ثيو) (أعمال 17: 23). كانت هذه المذابح يقصد منها من دون شك ان تعبر عن ولاء ديني، لكن بولس تمكن من إدراكها أكثر على حقيقتها، وكما تقر بذلك هذه المذابح نفسها، إذ رأى فيها أفعال جهل ديني.

في حال دخل بولس المدينة من الجنوب عبر بابها “البايريتي” والمؤدي إلى المرفأ، كان سيواجه على الفور بمنحوتة “نبتون” على صهوة حصانه وهو يرمي بعنف رمحه المثلث الشُعب. وعلى مقربة من هناك، يقع هيكل “كيرس” حيث نصبت الأشكال المنحوتة لكل من “مينرفا”، “جوبيتر”، و”أبولو”، مع تماثيل لـ “مركوري”، و”الميوزس” بالقرب من معبد “باخوس”. كما أن لدى دخول “الأغورا”، الذي يعد محور الحياة العامة للمدينة، والمحتوي على تماثيل مكرسة لـ “أبولو”، الإله حامي المدينة، مع مذبح الآلهة الاثني عشر (“زويس”، “هيرا”، “بوزايدن”، “هايدس”، “أبولو”، “أرطاميس”، “هيفياستس”، “أثينا”، “أيرس”، “أفروديت”، “هرمس”، و”هستيا”، كان بولس سيعاين ذلك الجزء من جبل اللأيروباغس الكثير المنحدرات والذي يصل إلى البحر، حيث يقع هيكل مارس عند شماله. وإذا ما تطلع بولس نحو الشرق، كان سيرى “الأكروبوليس” حيث شيدت على نتوءاته الشاهقة معابد لـ “باخوس”، “إيسكولابيوس”، “فينوس”، “الأرض”، و”كيرس” انتهاء بهيكل “الانتصار من دون أجنحة”. ثم على “الأكروبوليس” نفسه الذي كان بأكمله بمثابة عمل واحد للهندسة المعمارية والمنحوتات المخصصة لمجد الأمة ولعبادة آلهتها، انتصب “هيكل الانتصار” الحاوي على تماثيل لـ “فينوس” و”الغرايسس”. فيه أيضاً صرح مخصص لـ “مينرفا” إلى جانب معبد للإلهة “ديانا”. كذلك بالإمكان العثور هناك على تماثيل تخص “ثيسيوس”، “هركيولس”، و”الأرض”. بالطبع، الصرح الأروع على الإطلاق والواقع في أعلى “الأكروبوليس”، كان “البارتينن” (“بيت العذراء”) والمخصص لـ “مينرفا”. كان ينتصب بين أعمدته تمثال هائل لهذه الإلهة مصنوع من العاج والذهب. كما أن تمثالين آخرين لـ “مينرفا” يقعان داخل أروقة الهيكل، الأكثر تبجيلاً بين التماثيل الثلاثة المعروفة باسم إركثيوم، فيما تمثال “مينرفا بروماخس” الحاملة الرمح والترس ارتفع بأحجام هائلة فوق كل أبنية “الأكروبوليس” بصفتها الإلهة الحارسة لأثينا و”أيتكا”. كان بولس سيلاحظ أيضاً أن كل بناء عام في “الأغورا” نفسها، كان بمثابة معبد لإله أو إلهة ما. كان “بيت التدوين” هيكلاً لأم الآلهة فيما “بيت المجلس” حوى تماثيل لـ “أبولو” و”جوبيتر” مع مذبح لـ “فستا”. كان المسرح مخصصاً لـ “باخوس” والمذابح شيدت في كل مكان لإلهة الشهرة، والاحتشام، والطاقة، والإقناع، والشفقة، إلى جانب مذابح، كما أسلفت، إلى “إله مجهول”.

علم بولس أن أثينا كانت تحتل الصدارة بين مدن العالم القديم من جراء فلاسفتها العظماء شكلت مسقط رأس كل من سقراط وأفلاطون كما أن أرسطو اتخذها مقراً له. وبينما كان بولس يبشر أولاً اليهود في أثينا والخائفين الله من الأمم الذين كان عندهم شيء من المعرفة بالعهد القديم (17: 17أ)، أدرك أنه كان أكثر ما يتعامل مع أناس أميين كتابياً يدينون بنظرات دينية إلى العالم متنوعة ومتنافسة. يأتي أعمال 17: 18 على ذكر اثنتين منها: الأبيكوريون والرواقيون. كان المثال الأعلى للأبيكوريين العيش في حياة هادئة خالية من أي انزعاج. علم الأبيكوريون أن الغاية الرئيسة من الحياة هي اللذة، هذه اللذة التي تبلغ ذروتها في حياة هادئة خالية من الألم، والشهوات المزعجة، والمخاوف الوهمية بما في ذلك الخوف من الموت. لم ينكروا وجود “البانثيون” الإغريقي؛ فهم آمنوا فعلاً بالآلهة الإغريق “ككائنات مباركة وخالدة”. لكنهم اعتبروا أن الآلهة لم تكن معنية بشؤون البشر. بالمقابل، علم الرواقيون عن مادية دينية من صنف وحدة الوجود. وكل ما كان فعلياً، بما في ذلك الآلهة، كان مادياً. كانوا يهدفون إلى حياة متناغمة وتشهد انسجاماً مع الطبيعة. كان سؤالهم الأعظم: “كيف باستطاعة الإنسان الحكيم العيش بانسجام مع الطبيعة؟” علموا أن الحياة المنسجمة مع الطبيعة هي الحياة التي تعاش عقلانياً، هذه الحياة التي تتضمن أيضاً ضرورة قبول الإنسان مصيره من الآلهة، والذي لا مفر منه على كل حال. شكلت الحياة الفاضلة، في نظرهم، “الخير” الأوحد في المطلق. وكل ما عدا ذلك، بما في ذلك الصحة، والغنى، والجمال، وحتى الحياة والموت، اعتبر أنه “لا يعمل فرقاً” بما أن هكذا أمور لا تعمل أي فرق على صعيدي الفضيلة أو السعادة. كثيراً ما ركزوا على تفوق القدرة العقلانية لدى الإنسان، وعلى سعي الفرد في إثر “الفضيلة”. هذا السعي الذي محوره الذات، ولئن تميز بصدق أخلاقي عظيم وإحساس رفيع بالواجب، اتسم أيضاً بقدر عظيم من الكبرياء الروحية. بانت هذه الكبرياء في تعليق بعض الفلاسفة الأثيونيين على بولس بحيث اعتبروه سبرمولوغس والمترجم “مهذار”، ومعناه الحرفي “ملتقط البذور” أو “عصفور الدوري العائش داخل قناة المجاري” الذي يلتقط نتفاً من المعلومات ويبيعها من أجل المال. فكر آخرون أنه كان “ينادي بآلهة غريبة” من جراء مناداته “بيسوع والقيامة”. وفي هذه الحال الأخيرة، بما أن اللفظة “آلهة” هي في صيغة الجمع، قد يكون هؤلاء المفكرون الإغريق قد جعلوا رابطاً بين إيسوس “يسوع”، الترجمة الصوتية الإغريقية لاسم العلم العبراني يشوع وبين إيسو، الصيغة “الأيونية” لاسم إلهة الصحة. كما أن الاسم أنستاسس (“قيامة”)، بما أنه في المؤنث قد يشير، في نظرهم، إلى خليلة يسوع أو زوجته. إن صح ذلك، قد يكونون قد رأوا في العبارة “يسوع والقيامة” التشخيص والتأليه لقوى “الشفاء” و”التجدد”[14]. وهكذا أحضروا بولس إلى اجتماع للأريوس باغوس، مجلس المدينة، والذي يرجع اسمه إلى حقيقة حصول هذا اللقاء في الماضي على “تلة مارس”، لكن في أزمنة الرومان في “الرواق الملكي” داخل “الأغورا”. وهناك التمسوا من بولس أن يخبرهم أكثر عن هذا “التعليم الجديد” وهذه “الأمور الغريبة” (أعمال 17: 18-21)، لا بسبب وجود لديهم اهتمام خاص بالإنجيل بحد ذاته، لكن وكما يلحظ لوقا: “أما الأثينويون أجمعون والغرباء المستوطنون، فلا يتفرغون لشيء آخر، إلا لأن يتكلموا أو يسمعوا شيئاً حديثاً” (أعمال 17: 21).

بولس الذي لم يكن رسولاً مسيحياً وحسب، بل أيضاً رسولاً مسيحياً ويهودياً، لم يتأثر بصيت أثينا التي كانت بمثابة “أكسفورد” أو “هارفارد” العالم القديم. لكن روّعته الصنمية الفظيعة المنتشرة داخل المدينة! لذا، “كان يكلم في المجمع اليهود المتعبدين، والذين يصادفونه في السوق كل يوم”، والذين كانوا في غالبيتهم، إن لم نقل جميعهم، من الأميين كتابياً. لم ينتظر ريثما يقوم آباء المدينة بدعوته إلى ذلك. واصل ببساطة جهوده التبشيرية، التي نتجت منها الدعوة إلى الأريوس باغوس. وهكذا يتبين لنا أن أولويات بولس شملت أولاً تحليلاً ثقافياً محوره الله (لم ير أثينا كمدينة مثقفة جداً، بل كمدينة اجتاحتها الصنمية بالكامل وتعاني حاجة روحية ماسة). وشملت ثانياً التبشير بشكل متواصل لكل من العارفين والأميين كتابياً بهذا الترتيب (راجع رومية 1: 16)[15].

قدم بولس خطابه الأريوباغيتكا أمام هؤلاء الفلاسفة الأميين كتابياً معتمداً في ذلك تعابير مفهومة عندهم. يلحظ “كارسن” في هذا السياق: “يظهر أن العديد من التعابير في هذا الخطاب، وبالأخص في أجزائه الأولى، هي من صنف الأمور التي يعثر عليها أحدهم في أوساط الرواقيين… بكلام آخر، التعابير ملائمة لغوياً لسامعيه”[16]. كان “الأنكنيفنغسبونكت” – ألستم شغوفين بالألفاظ الألمانية؟ – أي “نقطة اتصاله بهم”، كان مذابح المدينة والمكتوب عليها “لإله مجهول”. هذا الكائن الإلهي الذي أقروا بأنهم يعبدونه عن جهل، قام بولس: “أنا أنادي لكم به”. كيف كان باستطاعة هؤلاء الفلاسفة الاعتراض على ذلك؟ مذابحهم الخاصة بهم تقر بأنهم لم يكونوا يعرفون كل الآلهة، لذا كان عليهم أن يكونوا منفتحين على التعليم حول الله، إله بولس. بولس وفي تلخيصه اللاهوتي الرائع لراوية التاريخ الكتابي التي تلت، والتي عرضها بحساسية على الصعيدين التبشيري والدفاعي، وضع إعلانات الحق العشرة التالية في الإطار الصحيح المناسب لسامعيه من دون أن يأتي على ذكر الأسفار المقدسة العبرانية[17].

أولاً، أعلن بولس أن الله الذي أقروا بأنفسهم أنهم يجهلونه، هو “الذي خلق العالم وكل ما فيه” (17: 24). هذا يعني أن الله يختلف عن فئة المخلوقات، نافياً بذلك الاعتقاد بوحدة الوجود عند الرواقيين. حقيقة الله الخالق، ترسي أيضاً الأساس للمسؤولية البشرية: الإنسان مديون لخالقه بكل شيء، حتى إن إقدام الإنسان على تحديه وجعله نفسه محوراً للكون، يدخل في جوهر الخطيئة. والأسوأ من ذلك هو أن تعلقه بأي شيء في الخليقة عوضاً عن الخالق، يدخل في جوهر الصنمية.

ثانياً، أعلن بولس أن الله الخالق “هو رب السماء والأرض، لا يسكن في هياكل مصنوعة بالأيادي” (17: 24). إنه السيد على كل شيء؛ لا يمكن حده ضمن مجال أضيق كالبحر (نبتون). “لا يمكن “تدجينه” – ولا حتى ضمن تخوم الهياكل” (“كارسن”).

ثالثاً، “الله الخالق هو “من نفسه” بمعنى “موجود بحد ذاته”: “ولا يخدم بأيادي الناس كأنه محتاج إلى شيء” (17: 25). هذا يعني أنه غير معتمد، من أجل وجوده، على أي شيء خارج عن ذاته. هذا يؤسس لعقيدة العناية الإلهية التي يعود بولس ويشرحها في أعمال 17: 26-28.

رابعاً، ولئن لا يحتاج إلينا الله الحي الحقيقي والمثلث الأقانيم، نقيض ذلك هو الذي يصح في البشرية؛ نحن نتكل عليه بالكامل “إذ هو يعطي الجميع حياة ونفساً وكل شيء” (17: 25ب). هذه الحقيقة تجرد البشرية من تبجحها باستقلاليتها.

أتوقف هنا لأطرح سؤالاً: أي تأثير أو وقع كان لتعليم بولس حول الله الخالق على الذهن الإغريقي؟ حسناً، كان تعليمه غريباً بالتمام عليهم، وذلك بحسب اقتناعهم كإغريق بخلود الشكل والمادة. يصرح “غردن هـ. كلارك” بما يلي:

هؤلاء [الفلاسفة] الذين استوعبوا في نهاية المطاف مفهوم الحقيقة الخالية من الجسد، لم يفكروا أبداً من قبل في اختزال التعددية في الكون إلى عمل الخلق الذي قام به الله الشخصي والقادرة على كل شيء. هذا المفهوم العبراني كان قد دخل للمرة الأولى الحضارة الإغريقية – الرومانية من طريق انتشار المسيحية بالطبع، كان الإغريق يفكرون من منطلق الآلهة؛ في الواقع، نقل عن “ثاليس” قوله إن كل الأشياء مليئة بالآلهة؛ لكن هذه الآلهة، التي يجري تفسيرها أحياناً من زاوية علمية لكن غير تاريخية، على أنها تجسيدات لقوى طبيعية، كانت كائنات لها أجسام، والتي على غرار الأشخاص الأحياء الآخرين، أصبحوا في الوجود نتيجة عمليات طبيعية. لم تكن أزلية بل ولدت؛ كان بالإمكان الانقلاب عليها وحتى تدميرها. فكرة الله القادر على كل شيء كانت غريبة بالتمام على الإغريق. والأكثر من ذلك مفهوم الخلق. أن يكون الله القادر على كل شيء قد أوجد العالم من العدم، لم يكن طرحاً قابلوه بالرفض! بل كان أمراً لم يخصر على بالهم. فالخلق فكرة حكر على الفكر العبراني وحده[18].

من الواضح إذاً أن بولس لم يكن يعدل في عقيدته لكي تتلاءم مع سامعيه “الجهال” ومع نظرتهم إلى العالم. بالمقابل، كم هي جلية مواجهته إياهم بنظرته المسيحية/ اليهودية إلى العالم.

خامساً، بولس وفي معرض تطرقه إلى مجال علم الإنسان، جاء يؤكد كيف أن كل الأمم تحدرت من إنسان واحد (7: 26). كان من الأهمية بمكان أن يركز بولس على وحدانية الجنس البشري من طريق التحدر الطبيعي من الإنسان الأول، ذلك لأنه خاطب من خلال إنجيله مشكلة كانت كونية – كونية لأن الإنسان الأول هو الذي أدخل الخطيئة والموت إلى البشرية جمعاء (راجع رومية 5: 12-19).

سادساً، ألمح بولس من دون الإفصاح عن ذلك صراحة، إلى أن شيئاً ما رديئاً بشكل فظيع ضرب العالم الذي كان قد خلقه الله. لذا بات الآن أحد الأهداف من عنايته أن يبحث الناس عن الله لكي يجدوه (17: 27)، إننا نستنتج من هذا أنه وخلافاً “للثور [الذي] يعرف قانيه والحمار معلف صاحبه” (إشعياء 1: 3)، الجنس البشري ككل – لا الأثينويون فقط – لم يعرفوا الله الذي خلقهم. لقد اختلت الأمور بشكل عميق جداً.

سابعاً، ولئن كان من الأهمية بمكان أن يثبت بولس تسامي الله، لم يقل عن ذلك أهمية تثبيته كونه قريباً من الناس. لم يرد بولس أن يظن هؤلاء القوم، ولو للحظة واحدة، أن الله المتسامي لا يبالي باحتياجات الناس. لذا أعلن: “مع أنه عن كل واحد منا ليس بعيداً. لأننا به نحيا ونتحرك ونوجد. لأننا أيضاً ذريته”.

ثامناً، في ضوء هذا كله، أشار بولس ضمناً إلى كون الخطيئة تعد في جوهرها صنمية – عبادة أي كان أو أي شيء غير الله هذا – معتبراً أن الصنمية تستحق التوبيخ بالكامل (17: 29). على هذا اللاهوت، وعلى علم الإنسان هذا، وعلم الخطيئة، أرسى بولس أساس مشكلة الإنسان. علم أنه لم يكن بمقدوره تقديم يسوع لهم كالمخلص للبشرية، ما لم يصور أولاً الحالة الحقيقية التي يتخبط فيها الجنس البشري. علم أن إنجيله شكل “الأخبار السارة” فقط مقابل خلفية الأخبار السيئة المتعلقة بالخطيئة الكونية والتي بوسع يسوع وحده إنقاذنا منها.

تاسعاً، من ثم تناول بولس فلسفته المختصة بالتاريخ أو الوقت، ما يعرف باسم “البعد الرابع”. مقابل الفكر الإغريقي على العموم، ومفاده أن التاريخ أو الوقت يسيران بشكل دائري، بحيث يدوران ويدوران على غير هدى حتى لا يبلغان إلى الأبد مكاناً ما بالتحديد، شدد على كون تاريخ الأرض يتبع خطاً مستقيماً، بمعنى أنه كان له بداية. وقد مرت فترة طويلة من الوقت كان الله خلالها “متغاضياً عن أزمنة الجهل” لشخصه – هذا الجهل الذي كان الأثينويون عبروا عنه بأنفسهم بما كتبوه على مذابحهم – بمعنى أنه لم يعمل سوى الشيء القليل بشكل مباشر لتيشير الأمم خلال أزمنة العهد القديم (17: 30)[19]. كما أن البشرية هي في طريقها إلى دينونة نهائية عتيدة من جراء صنميتها.

عاشراً، صرح بولس بنقطته العاشرة من خلال إعلامه النخبة المثقفة في أثينا أن الله ولئن سمح للناس في الأزمنة الماضية أن يستمروا في الجهل، فهو الآن يأمر جميع الناس في كل مكان أن يتوبوا. فلماذا هذا التبديل في معاملات الله مع البشرية الآن؟ اللفظة “الآن” التي استخدمها بولس مبينة على الحقيقة المدهشة كون يسوع المسيح، مسيا الله، كان في جيلهم قد جاء إلى العالم، وأيضاً على “الأخبار السارة” التي تجسمت فيه والتب كان بصدد شرحها لهم في تلك اللحظة بالذات. الله الآن يأمر الناس بأن يتوبوا، أعلن بولس، لأنه أقام يوماً هو فيه مزمع أن يدين المسكونة بالعدل، برجل قد عينه، مقدماً للجميع إيماناً إذ أقامه من الأموات!

ما إن أكد بولس أن الله أقام يسوع في الجسد من الأموات، حتى أسكته المجمع. بالرغم من ادعائهم بالانفتاح، لم يعد بمقدورهم تحمل المزيد من هذا. هذا يعني أننا لسنا نملك خطاب بولس بالكامل. بعضهم سخر بكلامه، فيما تصرف آخرون بأكثر لطف إذ أعلنوا عزمهم على دعوته إلى التحدث معه في وقت ما لاحقاً. لكن بعضهم تبعوه فوراً من ذلك المكان. هؤلاء بلا شك أكمل لهم عظته وآمنوا على أثر ذلك.

تلك إذاً كان النظرة إلى العالم التي بسطها بولس أمام هؤلاء الفلاسفة لم يقدم على ذلك من أجل لذة تكوين نظرة إلى العالم. لكنه فعل ذلك لتأمين الإطار الأوحد الذي يجعل لعمل يسوع على الصليب معنى. وإنه لمن الأهمية بمكان أن يدرك المسيحيون كيف أنه واجه أخطاء “الجهل” في الفكر الإغريقي مباشرة عند نقاط هامة، من دون العمل على تكييف رسالته لجعلها تتلاءم مع ما كان هؤلاء المفكرون على استعداد للإيمان به. علم عقيدة الخلق مقابل أزلية الشكل والمادة. وعلم عن العناية الإلهية – كون إلهه هو المسيطر على كل الأشياء – مقابل أية حرية بشرية. علم عن حالة الخطيئة التي يتخبط فيها الإنسان والحق المتعلق بعقاب الله لها ذات يوم. علم أن للتاريخ بداية وأنه يسير بخط مستقيم نحو الدينونة الأخيرة، مقابل أية نظرة دائرية إلى التاريخ؛ علم أن الله أقام يسوع في الجسد من الأموات مقابل الرأي القائل إن المادة شر. وعلم عن حاجة إلى التوبة والرجوع إلى الله. علم كل هذا من دون لجوئه إلى اقتباس ولا حتى آية واحدة من الكتاب المقدس. لكن، ما أقدم عليه، فهذا فعله لبسط القصة الكتابية الكبرى، والتي في ضوئها وحدها يصبح لقصة الإنجيل معنى.

الآن، من المهم جداً رؤية كيف أن بولس غطى الرواية الكتابية الكبرى قبل حديثه عن يسوع. ونحن أيضاً يلزمنا بدورنا أن نحذو حذوه في معرض دفاعنا المسيحي لهذا الجيل ما بعد الحداثة، برفق وبشكل جذاب، لكن مع الحرض على عدم المساومة على الرواية الكتابية وعقيدة الإنجيل فيها. وهذا بالتحديد ما فعله “شايفر” لدى كرازته أمام تلامذة “يال” عن الله خالقهم، واصفاً أسلوبه هذا بعبارة “ما قبل التبشير”. أنا أفضل وصف هذا الأسلوب بـ “التبشير الكتابي”، أو ببساطة مع “كارسن” “التبشير المبني على النظرة إلى العالم”. يشرح “كارسن”:

إن كانت الماروائيات (الميتافيزياء)، أحد أشكال الفيزياء الكبرى، والتي تفسر جميع أقسام الفيزياء الأخرى، هكذا حال الرواية الكبرى التي تفسر جميع القصص والروايات الأخرى…. فما يعرضه بولس هو الرواية الكتابية الكبرى. إنها الرواية الكبرى في الكتاب المقدس التي تشكل الإطار لكل القصص الصغرى وتفسرها. فبمعزل عن الرواية الكبرى، لا تعود القصص المختصة بيسوع تكتسب أي معنى. عرف بولس ذلك… ففي غيار هذه الرواية الكبرى، الرواية الصغرى [في الكتاب المقدس عما عمله يسوع على الصليب وعن قيامته]…. تفتقر إلى التماسك أو حتى مضللة بشكل إيجابي. أدرك بولس هذا الأمر.

…. الأمر المدهش هو عدم احجام بولس عن تأكيد قيامة يسوع من الأموات. وهذا الذي يتسبب بإزعاج كبير، ويدفع إلى تسكيت بولس فيتوقف عند هذا الحد خطابه في الأريوس باغوس. كان بولس بالطبع يعي بالتمام كيف أن الإغريق، في معظمهم، كانوا يتبنون شكلاً ما من أشكال الثنائية. المادة ردئية، أو على الأقل رديئة نسبياً، فيما الروح جيدة. كان مجرد تخيل رجوع أحدهم من الموت تحت شكل جسدي، أمراً غير مرغوب فيه، وقابل للتصديق بنسبة أقل. كانت القيامة في الجسد من الأموات أمر غير عقلاني… من أجل ذلك، ضجر بعض المنصتين إلى بولس من هذا الكلام. وسخروا جهاراً به ووضعوا حداً للاجتماع (العدد 32). لو أن بولس ذكر عوضاً عن ذلك كلاماً عن خلود بسوع، وعن استمرار وجوده روحياً إلى الأبد بمعزل عن أي جسد، لم يكن ليتسبب بحدوث أية بلبلة. لكن بولس يأبى التراجع. وهو يحاجج في مكان آخر معتبراً أنه لو لم يقم المسيح من الأموات، لظهر الرسل على أنهم كذبة، ولبقينا نحن أموات في ذنوبنا وخطايانا (1كورنثوس 15). هنا يستمر أميناً لهذه الرؤية. لا يبتر بولس الإنجاز لجعله مقبولاً وملائماً للنظرة إلى العالم التي يراعيها سامعوه.

إذاً، بالنسبة إلى بولس، ثمة مضمون للإنجيل غير قابل للاختزال أو التفاوض حوله، هو المضمون الذي يجب عدم التخلي عنه، مهما بدا غير مقبول لدى نظرات أخرى إلى العالم وعليه، وبشكل خاص لدى بذلنا قصارى جهدنا مع تحلينا بالحكمة لإيجاد رابط مع نظرات أخرى إلى العالم تختلف عن نظرتنا نحن، علينا الحرص على عدم التقليل من أهمية أمور الإنجيل غير القابلة للتفاوض حولها، لئلا في معرض سعينا للتواصل بشكل حكيم وله صلة بالسامعين، نضحي عن غير قصد بما نقصد توصيله[20].

اعتمد بولس في خطابه الأريوباغيتيكا حقيقة قيامة يسوع في الجسد لكي يصلح كـ “المدخل” إلى الإنجيل، لكن سامعيه دفعوا هذا المدخل و”أغلقوه بقوة” – ليس على بولس بل في الواقع على أنفسهم – قبل دخولهم منه. ترى، هل كان خيار بولس لهذا “المدخل” بمثابة انحراف؟ إجراؤنا مسحاً شاملاً للعظات في أعمال 2: 14-39؛ 3: 13-26؛ 4: 10-12؛ 5: 30-32؛ 10: 36-42؛ 13: 17-41؛ 17: 22-31 إلى جانب تعاليم الرسائل في العهد الجديد (رومية 1: 2-4؛ 2: 16؛ 8: 34؛ 9: 5؛ 10: 8، 9؛ 1كورنثوس 15: 3، 4)، كل هذا يظهر بوضوح كيف أن اعتماد بولس قيامة يسوع في الجسد بمثابة “المدخل” إلى الإنجيل، لم يكن بمثابة انحراف على الإطلاق. هو اعتمدها من أجل ردة الفعل العنيفة التي ستثيرها! حقاً، كان التركيز على صعيد الكرغما (“المناداة”) القديمة يحصل دائماً على حقيقة قيامة يسوع في الجسد من الأموات. فالواعظ لا يتوقف في أي من هذه العظات المدونة لكي يبين لسامعيه الأهمية الخلاصية لموت المسيح. لكنها كلها تركز بالحري على كون الله قد قلب حكم البشر رأساً على عقب بإقامته من الأموات إنساناً – يسوع الناصري – الذي كان قد صلب كمجرم من قبل السلطات الرومانية وبإيعاز من السنهادرين اليهودي. وكما يؤكد “ولبر م. سميث”: “يشهد سفر أعمال الرسل على أن العالم انقلب رأساً على عقب من خلال الكرازة بالقيامة من الأموات [لا من خلال الصليب]”[21]. وبأكثر دقة، كما سبق لي أن صرحت قبلاً في الفصل الرابع، لكن الأمر يستحق تكراره، كانت المضامين التي استخرجها الرسل من ذلك الحدث الجلل هي التي هزت العالم الروماني في القرن الأول من جذوره، بمعنى أن:

ç قيامة يسوع من الأموات في الجسد، هي التي أظهرت ألوهيته (رومية 1: 3، 4)[22].

ç شكلت قيامة يسوع من الأموات في الجسد السبيل لتنصيبه على العرش في السماء بصفته رباً على البشر (أعمال 2: 36؛ 10: 42).

ç أظهرت قيامة يسوع من الأموات في الجسد أن مخلص الناس الوحيد (أعمال 4: 12). بوسعنا استنتاج من هذا كيف أن سائر ديانات العالم هي باطلة وكاذبة وليست أهلاً لولاء الناس.

ç أظهرت قيامة يسوع من الأموات في الجسد أن الله وضع خاتم موافقته ورضاه على عمل المسيح الفدائي (رومية 4: 25؛ عبرانيين 9: 24، 25).

ç قيامة يسوع من الأموات في الجسد، جعلت منه “بناء الهيكل” الحق حيث بإمكان الناس إيجاد الله وعبادته (بوحنا 2: 19، 21؛ مرقص 14: 58).

ç تشكل قيامة يسوع من الأموات في الجسد جانباً ضرورياً من الإيمان الذي يخلص الخطاة (رومية 10: 9).

ç تؤكد قيامة يسوع من الأموات في الجسد، للمسيحيين مصداقية تعليمه (متى 16: 21)، وتمسي تشجيعاً لهم بأن يستمروا أمناء له لدى تعرضهم للاضطهاد من أجل إيمانهم (2تيموثاوس 2: 8).

ç تؤكد قيامة يسوع من الأموات في الجسد بصفته “باكورة الراقدين”، للمسيحيين، وبشكل ضمني لسائر الناس، أن قيامة الأموات التي ستحصل في آخر الأيام قد بدأت، وبالتالي سيأتي يوم فيه يقومون هم أيضاً من الأموات، بعضهم للسعادة الأبدية وبعضهم الآخر للهلاك الأبدي (يوحنا 5: 28، 29؛ أعمال 24: 15؛ رومية 8: 19 والأعداد التالية؛ 1كورنثوس 15: 20؛ والأعداد التالية؛ 1تسالونيكي 4: 14؛ 1بطرس 1: 3، 4).

ç قيامة يسوع من الأموات في الجسد، وما تلاها من صعود إلى السماء وترفيع إلى منزلة الربوبية، جعلته الديان لكل الناس (أعمال 17: 31).

ç كان على الكنيسة الاحتفال بحقيقة قيامة المسيح في الجسد من خلال اجتماعها اليوم الأول من كل أسبوع على مدار السنة وإلى انقضاء الدهر. على الكنيسة عدم السماح لأي كان بأن ينسيها السبب وراء تحويلها السبت من اليوم السابع إلى اليوم الأول.

ترون جيداً أنه بينما قد يبقى أحدنا غير متأثر شرعياً بالمناداة بأن شخصاً ادعى بكونه المسيا اليهودي قد صلب على صليب روماني بما أن الآلاف من الناس ماتوا ولقوا المصير عينه، لا يستطيع أحد البقاء محايداً حيال المناداة بأن الله قد أقام يسوع هذا من الأموات في الجسد. لا يستطيع أحدنا أن يتثاءب، علامة اللامبالاة، ويكتفي بالقول: “ما أجمل هذا الكلام”، قبل أن يسلم على المدافع باليد ويمضي من دون أن ينال جزاءه! شكلت قيامة المسيح معجزة! فهي إما حصلت وإما لم تحصل! ولا مكان للحياد هنا. هذا الجانب من المناداة القديمة، استحوذ على اهتمام السامع، وطالبه بضرورة إخضاع نفسه لمصداقية المسيحية. في حال رفضه، إنما بذلك يعرض نفسه للخطر من جراء إنكاره الرب الممجد الذي سوف يدينه ذات يوم. إن كان يقبله، فهو بذلك يكون قد تحول إلى مخلص البشرية الوحيد الذي مات من أجل خطاياه. وعندما شرح له بولس تلك “الأخبار السارة”، شرحها، أنا أسلم، من زاوية التبرير بالإيمان وحده!

بعض تلامذة الكتاب المقدس، بنوا رأيهم على ما صرح به بولس لاحقاً في 1كرونثوس 2: 2، حيث يقول: “لأني لم أعزم أن أعرف شيئاً بينكم [أيها الكورنثيون] إلا يسوع المسيح وإياه مصلوباً”، يحاججون في كونه استخلص من “عرضه الهزيل” للرسالة في أثينا بأن استراتيجيته الإرسالية التي اعتمدها هناك لم تكن حكيمة. هم يعتبرون بالتالي أن نهجه الذي اعتمده في خطابه الأريوباغيتيكا كان خطأ، وبأنه استعاض عن لاهوت الإنجيل بـ “اللاهوت الطبيعي” وعن “لاهوت الصليب” بـ “لاهوت المجد”، كما أنه أخفق في بسطه رواية الكتاب المقدس الكبرى قبل أن “يكرز بيسوع”، إذ كان عليه الاكتفاء ببساطة “بالكرازة بيسوع”. علق مثلاً “مريب سي. تني”، العميد الأسبق لمعهد الدراسات العليا في كلية “ويتن” على هذا بالقول: “الطريقة غير المألوفة التي بها صرفته أثينا، أسخطته ودفعته إلى إعادة النظر في مجمل أسلوبه في معرض الدفاع عن الإنجيل”[23]. لكن بولس لم يساوم في خطابه في الأريوباغيتيكا بأي شكل من الأشكال على الإنجيل، كما أن عزمه الذي أفصح عنه في 1كورنثوس 2: 2 لم يكن القصد منه ادخال تصويب على خدمته كان قد خطط له لتصحيح خطأ سابق كان قد اقترفه في أثينا. يعرض “ف. ف. بروس” في هذا السياق تبصراً غنياً جداً في مضمونه:

في أثينا كما هي الحال قبلاً في ليسترا، يتعمد بولس في سفر الأعمال عدم اقتباس نبوات من العهد القديم. والتي من شأنها أن تكون غريبة وغير معروفة عند سامعيه… لكنه لا يحاجج من منطلق “المبادئ الأولى” من الصنف الذي كان يشكل الأساس لأنظمة متنوعة من الفلسفة الإغريقية. [لكنه عوضاَ عن ذلك] نجد كيف أن تفسيره ودفاعه عن رسالته، يتأسسان على الإعلان الكتابي، بحيث يعيدان صدى الفكر، وأحياناً اللغة عينها لكتابات العهد القديم. فعلى شاكلة الإعلان الكتابي نفسه، يستهل خطابه من الله خالق الكل، ويواصل مع الله حامل الكل، ويختتم بالله ديان الكل [هذه المفاهيم الثلاثة جميعها تشكل عثرة للفكر الإغريقي][24].

إلى ذلك، ما هو الدليل على كون الأريوباغيتيكا أسفرت عن “عرض هزيل”؟ لا يذكر لوقا في أعمال 17: 34 أن قلة فقط آمنوا، لكنه يصرح بأن “أناساً التصقوا به وآمنوا”، ذاكراً بالتحديد اسمين منهم (ديونيسيوس ودامرس) بسبب أهميتها المدنية، على ما يبدو. ثم يعلمنا بوجود “آخرين معهما”. ليس لدينا ببساطة أي سبيل لمعرفة أية نسبة مئوية من الحضور شكل هذا. أخيراً، عندما يأخذ أحدنا بعين الاعتبار أولاً، أن المجلس لم يدع بولس يكمل خطابه لدى تطرقه إلى قيامة يسوع من الأموات، حتى إن ما يذكره لوقا في سفر الأعمال لا يعتبر كل ما أراد بولس قوله لو أتيحت له الفرصة بذلك (ونحن نعلم مما نادى به في أماكن أخرى ما كان سيقوله لو أتيحت له الفرصة لذلك)، وثانياً كون بولس “في ذلك الوقت لم يعند مبتدئاً في مجال تبشير الأمم، من أجل اختبار الأسلوب الذي سيثبت فعاليته”[25]. كان بولس سيبرأ من ارتكابه أي خطأ ارسالي في أعين الجميع، ما عدا أكثر المفسرين عداء له.

بسط أمام الأميين كتابياً القصة التاريخية الكبرى للكتاب المقدس لا يعقد الأمور أكثر بالنسبة إليهم، بل على نقيض ذلك بما أنه يجعل المعنى والقصد من “الرواية الأصغر” للإنجيل أوضح في نظرهم. كما أن بسط أمام الأميين كتابياً القصة التاريخية الكبرى للكتاب المقدس، تظهر أن للإنجيل أيضاً مضموناً حول يسوع التاريخي وأن ما قاله وفعله، من الضروري أخذه على محمل الجد. بسط أمام الأميين كتابياً القصة التاريخية الكبرى للكتاب المقدس، ينجح في تقرير الوجهة التي سيتخذها البحث الدائر بين المبشر والسامع. كما أن بسط أمام الأميين كتابياً القصة التاريخية الكبرى للكتاب المقدس، سيمكن السامع من إدراك بشكل أفضل مصداقية الإنجيل، وصلته الوثيقة به، وجماله، وقدرته على تغيير الحياة[26]. باختصار، بينما لن نتمكن أبداً من إدخال أي تحسين على نقلنا إلى الناس ما يطلب منا الله أن ننقله إليهم، أي كونهم خلائقه، وهم تحت دينونته بسبب خطاياهم ضده، وقد رتب الله نفسه للبشرية سبيلاً للهرب من غضبه، والمؤسس على العمل الذي أكمله ابنه الإلهي، يسوع المسيح ربنا، وكيف أنه من خلال الإيمان به “يتبرر [يتحرر] كل من يؤمن من كل ما لم [يقدر] أن يتبرر [يتحرر] منه” (أعمال 13: 39)، من هنا ضرورة أن نكون على استعداد اليوم لوضع هذه الرسالة، عند الضرورة، ضمن القصة الكبرى للأسفار المقدسة ككل، من دون المساومة على تلك الرسالة.

ليساعدنا الله جميعنا على تبشير هذا الجيل بأكثر حكمة من خلال إدخال ضمن شهادتنا عند الضرورة، القصة الكبرى التي تستطيع وحدها أن تضفي معنى على إنجيل يسوع. وليت هذا يتم أيضاً على صعيد الحقول الإرسالية في العالم بينما تسعى الكنيسة هناك لتتميم المأمورية العظمى لربها.

 

 

[1] D. A. Carson, “Athens Revisited” in Telling the Truth: Evangelizing Postmoderns, edited by D. A. Carson (Grand Rapids: Zondervan), 2000, 384-85.

[2] هذه الأسباب الخمسة تنطبق أيضاً بالقدر نفسه ميوتاتس ميوتاندس (أي بعد إدخال التعديلات الضرورية) على العالم المسيحي الإنجيلي بشكل عام في الغرب.

[3] Lee Strobel The Case of a Creator (Grand Rapids. Zondervan, 2004)

كثيراً ما يساعد هذا الكتاب على اكتساب حجج علمية دعماً لمفهوم “التنظيم الذكي”.

[4] يتمسك المسيحيون بـ “نظرة التطابق إلى الحق” لكن ليس نظرة التطابق الكلاسيكية إلى الحق، والتي ارتبطت باسم “جون لك”، والتي يعتنقها الفلاسفة الطبيعيون. يعتبر هؤلاء الفلاسفة أن الحق هو ما يتطابق مع الواقع. لكن في هذه الحال يثار السؤال: “الواقع كما تفهمه وتقرره أية جهة؟” فيجيب هؤلاء الفلاسفة على هذا بالقول: “إنه الواقع كما يفهمه ويقرره الإنسان وعلومه!” وبذلك يكون الإنسان قد أصبح المعيار للحق والمقياس لكل شيء. أما نحن فنصرح بأن الحق هو ما ينطبق مع الحقيقة كما يُعرّف بها الله، ذلك لأنه كما أن الله هو محبة، فهو يعد أيضاً مصدر كل حق. فحقه يتجذر ويتأسس بكل إحكام في طبيعته التي لا تتغير. ليس الحق من تركيب البشر، ولا هو يتغير، أو نسبي، كما أنه ليس وقفاً على أية ظروف اجتماعية أو ثقافية. لذا، فإن ما يعرفه الله وينقله إلينا في كلمته، يعد المعيار الكامل للحق المطلق.

[5] “كريستيان سميث” و”مليندا لاندكويست دانتن” أجريا البحث الأكثر شمولية على الإطلاق حول المراهقين الأميركيين (سن 13-17) وحول موقفهم من الدين. ففي كتابهما

Soul Searching: The Religious and Spiritual Lives of American Teenagers (Oxford University Press)

يصرحان بأن المراهقين على وجه العموم يعتقدون أن الدين مع أنه “جيد للعديد من الناس، لا يستحق أن تخاض الحروب في سبيله”. فالدين يكتسب في نظرهم أهمية ثانوية، وهم عاجزون عن الإفصاح عن مضون إيمانهم. وبحسب “سميث” و”دانتن”، “الديانة التي أثبتت نفسها كالرئيسة بين أوساط المراهقين الأميركيين المعاصرين هي ما يمكن وصفها بالعبارة الربوبية الأخلاقية والمعالجة”. تدين هذه الديانة بما يلي:

1 – الله موجود وهو خالق العالم ومنظمه والساهر على الحياة البشرية على الأرض.

2 – يريد الله أن يكون الناس صالحين، لطفاء وعادلين مع بعضهم بعضاً، كما يعلم الكتاب المقدس ومعظم ديانات العالم.

3 – الهدف الرئيس من الحياة هو أن يكون الإنسان سعيداً ويشعر بالرضى على نفسه.

4 – ليس الله في حاجة إلى التدخل في حياة الناس إلا متى دعت الحاجة إليه لحل معضلة ما.

5 – يمضي الناس الصالحون إلى السماء بعد موتهم.

[6] Joel Belz, “Vile and Vulgar” World, vol. 21. Num. 24 (June 17, 2006).

[7] Carson, “Athens Revisited,” 386.

[8] Robert L. Reymond, A New Systematic Theology of the Christian Faith (Second Edition: Nashville, TN: Thomas Nelson, 2004), XX, fn. 2.

[9] Carson, “Athens Revisited”, 386.

[10] Cornelius Van Til, Paul at Athens (Pamphlet Published by Lewis J. Grotenhuis; Phillipsburg, N. J. n. d.), 13.

[11] Carson, “Athens Revisited”, 386.

[12] Carson, “Athens Revisited”, 387.

[13] The Excursus on Athens in My Paul, Missionary Theologian (Ross-shire, Scotland: Mentor, 2000), 159-61.

[14] See F. C. Chase, The Credibility of Acts (London: Macmillan, 1902), 205ff.

[15] Carson, “Athens Revisited”, 390-91.

[16] Carson, “Athens Revisited”, 392.

[17] هنا أتبع بشكل رئيس تحليل “كارسن”.

[18] Gordon H. Clark, Thales to Dewey (Reprint: Grand Rapids: Baker, 1980), 14-15.

[19] راجع أيضاً أعمال 14: 16، 17أ: “الذي في الأجيال الماضية ترك جميع الأمم يسلكون في طرقهم مع أنه لم يترك نفسه بلا شاهد”، وأفسس 2: 12، 13: يقول بولس إن الأمم من عصر العهد القديم، كانوا “أجنبيين عن روعية إسرائيل، وغرباء عن عهود الموعد، لا رجاء لكن، وبلا إله في العالم…. [وكانوا] قبلاً بعيدين” عن هذه البركات.

[20] Carson, “Athens Revisited”, 394-96.

[21] Wilbur M. Smith, “Resurrection” in Baker’s Dictionary of Theology (Grand Rapids: Baker, 1960), 453.

سبق لي أن ذكرت هذه المعلومة في سياق الفصل حول قيامة المسيح في الجسد، لكنها تستحق أن نكررها: في سفر الأعمال الذي كتبه لوقا، “دم” المسيح مذكور مرة واحدة، وذلك أمام قسوس أفسس (20: 28). كذلك حقيقة “قتل” يسوع مذكورة مرة واحدة فقط (3: 15). كما أن حقيقة “صلبه” مذكورة مرتين (2: 36: 4: 10). والخشبة” التي علقوه عليها مذكورة ثلاث مرات (5: 30: 10: 39؛ 13: 29) فيما لا يوجد أي ذكر على الإطلاق لـ “صليبه”! بالمقابل، الكلام عن “قيامته” يتكرر عشر مرات. كما أن حقيقة كونه “أقيم” في الجسد من الأموات مذكورة عشر مرات. من هنا يتضح لنا كيف أن التركيز في الكرغما القديمة، كان على حقيقة قيامة يسوع من الأموات في الجسد وعلى مضامينها.

[22] راجع تفسيري لهذا النص في كتابي

Jesus, Divine Messiah: The New and Old Testament Witness (Ross-Shire, Scotland: Mentor, 2003), 372-84.

[23] Merrill C. Tenney, New Testament Survey (Grand Rapids: Eerdmans, 1961), 287. See also William M. Ramsay in His St Paul. The Traveler and the Roman Citizen (New York, G. P. Putnam’s Sons, 1896), 252, and

[24] F. F. Bruce, Apostle of the Heart Set Free (Grand Rapids: Eerdmans, 1996), 239.

[25]  F. F. Bruce, Apostle of the Heart Set Free 246.

[26] هذه الأفكار اقتبستها من Carson, “Athens Revisited”, 398.