أبحاثإلحاد

مع أصدقاء كهؤلاء، من يريد أعداءً – مشكلة الشر في مشكلة أيوب

مع أصدقاء كهؤلاء، من يريد أعداءً – مشكلة الشر في مشكلة أيوب

مع أصدقاء كهؤلاء، من يريد أعداءً - مشكلة الشر في مشكلة أيوب
مع أصدقاء كهؤلاء، من يريد أعداءً – مشكلة الشر في مشكلة أيوب

مع أصدقاء كهؤلاء، من يريد أعداءً – مشكلة الشر في مشكلة أيوب

أيوب 4-13

منذ عدة سنوات مضت، كتب الملحد الفرنسي جان بول سارتر مسرحية بعنوان The Devil and the Good Lord وكان الشخصية الرئيسية في هذه المسرحية هو جوتز، والذي كان جندياً تخلى عن طرقه القتالية لكي يصبح مسيحياً، بل في الحقيقة، أقرب إلى قديس. وبتقدم المسرحية يصاب جوتز أكثر فأكثر بخيبة الأمل بشأن ما كان يعتبره صمت من الله. فكان يصلي ولا يتلقى أية إجابة، وأخيراً انفجر قائلاً: «لقد صليت، وطلبت علامة، وأرسلت رسائل إلى السماء، لكن دون رد. بل أن السماء تجاهلت حتى اسمي. وكل دقيقة أتساءل عما يمكن أن أكون في عين الله. والآن أنا أعرف الإجابة: لا شيء. فالله لا يراني، ولا يسمعني، ولا يعرفني. أترى هذا الفراغ أعلى رؤوسنا؟ هذا هو الله. أترى تلك الفجوة الموجودة في الباب؟ هذه هي الله. هل ترى تلك الحفرة التي في الأرض؟ هذه أيضاً هي الله. فالصمت هو الله، والغياب هو الله، فالله هو عزلة الإنسان».

قبل حوالي خمسين عاماً من ذلك، قال جوزيف باركر، وهو واعظ مسيحي كان راعياً لكنيسة المدينة في لندن، أنه حتى سن الثمانية والستين لم يكن لديه شك ديني. لكن عندها توفت زوجته، وهكذا انهار إيمانه كله. فكتب يقول: «في تلك الساعة المظلمة، كدت أن أكون ملحداً، لأن الله قد داس بقدمه على صلواتي وقابل تضرعاتي بالاحتقار. فإني لو كنت قد رأيت كلباً في مثل الحزن والوجع الذي كان لدي، لكنت قد أشفقت عليه وساعدت هذا الحيوان الأعجم؛ لكن الله ابتعد عني وطردني كالعنة – إلى البرية الفارغة والليل المظلم دون أي نجوم»[1].

فأين هو الله عندما ينهار عالمنا؟ لماذا لا يقل أي شيء؟ ولماذا لا يفعل شيئاً، ولو حتى بسيطاً، كوضع حد لهذا البؤس والألم مثلاً، بإنهاء حياتنا؟ هذه هي صرخات أناس مثل سارتر وباركر، وقد تكون صرخاتك أنت أيضاً. وقد كانت هذه بالتأكيد صرخات قبل أيوب.

فأيوب، نموذج التقوى ومثال الفضيلة واللطف، يتحول الآن إلى حطام يرثى له. فحيويته قد ذبلت وصحته قد ضاعت، وأسرته قد ماتت. والحقيقة أنه لم يتبق له شيء سوى أمرين: فقط إيمانه وكماله. وفي الأقسام المحورية للسفر، التي سنفكر فيها في هذا الفصل، تعرض كل من هذين الأمرين لهجوم سيء، وممن يا ترى؟ من ثلاثة من أعز أصدقائه. وربما نفكر عن حق، أنه مع أصدقاء مثل هؤلاء، من يحتاج إلى أعداء!

موقفان

بغض النظر عن مدى تضليل وتبلد شعور أصدقاء ومعزي أيوب الثلاثة – أليفاز، وبلدد، وصوفر، فبلا شك كانت نواياهم جيدة ومخلصة، فهم بأسلوبهم الخاص يمثلون نوعاً معيناً من المسيحيين يوجدون اليوم. وإذا أردنا أن نخلص موقفهم فسيكون: «لا تزعجني بالحقائق، فقد صممت بالفعل على شيء ما». فقبل حتى أن يفتح أيوب فمه، كانوا قد قرروا بالفعل ما هي المشكلة الحقيقية، وأين تكمن، فالمشكلة هي الخطية، وهي تكمن في أيوب. فلا يمكن أن يكون هذا خطأ الله – فإنهم يعتقدون أنه لا يمكن لله أن يفعل مثل هذه الأمور دون سبب، والسبب الوحيد الذي استطاعوا أن يروه لكي يوقع الله مثل هذه الآلام هو الدينونة. لكن الدينونة على ماذا؟ على خطية أيوب. بالطبع!

ومن ناحية أخرى، لدينا أيوب، الذي يمثل من ناحية ما نوعاً معيناً من الجماعات المسيحية؛ وإذا أردنا أن نلخص موقفه، يمكن أن يكون بكلمات ترنيمة جون لينون: «أعطني بعض الحقيقة». فالحقيقة أن أيوب يقول لأصدقائه: «إني لا أريد نظرياتكم، مهما كانت مقنعة ومنطقية بالنسبة لكم، إني أريد أن أصل إلى أصل ما يحدث حقاً. أريد الحقيقة. وأكثر من رغبتي في معرفة الحقيقة، أريد معرفة الله نفسه، لكي يبررني ويعلن براءتي أمام العالم. فالمعاناة من الآلام والأحزان والفقد المادي شيء، والمعاناة من الاتهامات الباطلة بأني كاذب ومخادع وأستحق ما يحدث لي، كما يقول أصدقائي، هو شيء آخر تماماً ومؤلم للغاية، والله وحده هو الذي يستطيع أن يصحح هذه الفكرة». تلك هي الفكرة الرئيسية في هذه الأصحاحات.

أما الطريقة التي يتم بها عرض هذه المسرحية فهي كالآتي، كل من أصدقاء أيوب بدوره يهاجمه بالكلمات، وبعد كل هجوم يقوم أيوب بالدفاع عن نفسه، وهذه الدائرة من الهجوم والدفاع، والهجوم المضاد تتكرر ثلاث مرات، إلى أن ينفجر أيوب في النهاية في دفاع طويل مما يجعل أصدقاءه يلزمون الصمت. وحتى في هذه اللحظات، لا يستطيع كذلك أن يقنعهم ببراءته، فهم قد قرروا مسبقاً أنهم لا يريدون أن يرتبكوا بالحقائق.

 

هذا خطؤك يا أيوب!

لقد كان جدلهم شديد البساطة. فهم يعتقدون أن كل ألم يرجع إلى الشر. وأيوب يتألم، فلذلك لا بد أنه شرير، هل هناك أبسط من ذلك؟ نرى ذلك في كلام أليفاز في أيوب 4: 7-9:

«اذكر من هلك وهو بريء وأين أبيد المستقيمون، كما قد رأيت أن الحارثين إثماً والزارعين شقاوة يحصدونها. بنسمة الله يبيدون وبريح أنفه يفنون».

يفخر أليفاز بنفسه باعتباره خبير بشؤون البشر، أو عالم اجتماع، أو لاهوتي، كما لو أنه يقول: «كل الناس يعرفون يا أيوب أن الله قد نظم العالم بحسب نظرية السبب الأخلاقي والنتيجة، فإذا كنت صالحاً فسوف تنجح، وإذا كنت شريراً، فإن خطاياك ستنكشف في النهاية ولا يمكنك الهرب منها، كما لا يمكنك أن تهرب من قانون الجاذبية؛ فهو لا يتغير».

بل الأكثر من ذلك أن أليفاز يزعم أنه كان له إعلان خاص يؤكد هذا الأمر – أو رؤية، أو ما يزعم البعض اليوم أنه “كلمة من الرب” فمن الذي يمكن أن يجادله في هذا الأمر؟

«ثم إلي تسللت كلمة فقبلت أذني منها ركزاً، في الهواجس من رؤى الليل عند وقوع سبات على الناس أصابني رعب ورعدة فرجفت كل عظامي. فمرت روح على وجهي. اقشعر شعر جسدي. وقفت ولكني لم أعرف منظرها. شبه قدام عيني. سمعت صوتاً منخفضاً. أالإنسان أبر من الله أم الرجل أطهر من خالقه» (أيوب 4: 12-17).

والمضمون هنا واضح: «إنك تتألم يا أيوب لأنك قد أخطأت».

لكن هؤلاء الأصدقاء لم يكن إلى جانبهم فقط علم الاجتماع والحركة الكاريزماتية، بل كان بجانبهم أيضاً التقليد الكنيس بأكمله، لذلك يقول بلدد في أصحاح 8: 2-3، 8-10:

«إلى متى تقول هذا وتكون أقوال فيك ريحاً شديدة. هل الله يعوج القضاء أو القدير يعكس الحق؟

اسأل القرون الأولى وتأكد مباحث آبائهم. لأننا نحن من أمس ولا نعلم لأن أيامنا على الأرض ظل. فهلا يعلمونك، يقولون لك ومن قلوبهم يخرجون أقوالاً…».

بمعنى أن «هذه ليست فكرة جديدة، لأن الله يتصرف بموجب عدالته الصارمة. فكما تعرف جيداً يا أيوب، إن هذه حكمة تلقيناها من آبائنا السابقين، الذين كانوا أحكم منك، وتوصلوا إلى هذه النتيجة. لذلك، لماذا لا تتوقف عن عنادك؟ اعترف بخطيتك وتب، لا شيء أبسط من ذلك».

لكن أيوب رغم ذلك لم يتأثر، بغض النظر عن مدى صحة أفكارهم واعتقاداتهم، ويعترف أيوب لهم بذلك (9: 1). فهذه النظرية ليست لها علاقة بتجربته، فهي لا تنصف الحقائق. حقاً، أنه قانون عام أن ما يزرعه الإنسان إياه يحصد أيضاً – فعندما تعيش حياة مستهترة وخليعة سينتهي بك الأمر إلى الإدمان مثلاً، وهذا منطقي. لكن ليست هذه هي الحال بالنسبة لأيوب، ومن الخطأ أن نتظاهر بعكس ذلك.

وفي النهاية، بعد أن استمع صوفر إلى تبريرات أيوب الخاصة، التي في حد ذاتها كانت تؤكد ذنبه في أين أصدقائه، إذ أنه يعترض ويشكو أكثر من اللازم – لم يستطع صوفر الاحتمال أكثر من ذلك. فهو يعرف ما يؤمن به، وهو يتمسك به، مهما بدت كلماته محزنة أو قاسية، لذلك فقد صمم على أن يعرف أيوب بما يفكر فيه.

«أكثرة الكلام لا يجاوب أم رجل مهذار يتبرر. أصلفك يفحم الناس أم تلخ وليس من يخزيك. إذ تقول تعليمي زكي وأنا بار في عينيك. ولكن يا ليت الله يتكلم ويفتح شفتيه معك ويعلن لك خفيات الحكمة إنها مضاعفة الفهم فتعلم أن الله يغرمك بأقل من إثمك».

ففي سيل من الغضب، يقوم صوفر وصديقيه عملياً بالهجوم على أيوب لإقناعه بتوقيع اعتراف باطل. فيقول له: «انظر، ربما تتمكن من خداع بعض الناس بهذا ولكنك لا تستطيع أن تخدع الله. فإنه لو كان هنا لاستطاع أن يضعك في مكانك الحقيقي. بل أن خطاياك عظيمة وكثيرة لدرجة أن الله نفسه لا يستطيع أن يواصل تسجيلها بالكامل، حتى أنه نسي بعضها».

فيما بعد في أصحاح 22: 4-11، يقوم أليفاز أيضاً بقسوة ووحشية أكبر بالوصول إلى هذه النقطة:

«هل على تقواك يوبخك أو يدخل معك في المحاكمة. أليس شرك عظيماً وآثامك لا نهاية لها. لأنك ارتهنت أخاك بلا سبب وسلبت ثياب العراة. ماء لم تسق العطشان وعن الجوعان منعت خبراً أما صاحب القوة فله الأرض والمترفع الوجه ساكن فيها. الأرامل أرسلت خاليات وذراع اليتامى انسحقت. لأجل ذلك حواليك فخاخ ويريعك رعب بغتة أو ظلمة فلا ترى وفيض المياه يغطيك».

بكلمات أخرى: «إن كل إنسان يعرف كيف يتصرف الأغنياء بثرواتهم – إذ يتعاملون بمعيارين، ويستغلون الفقراء، ولا بد أنك تصرفت بثروتك هكذا يا أيوب، وقد كشفك الله، وأعطاك جزاءك العادل». وهكذا فإن كلاً منهم أعطى أيوب نفس الحل: تُب، وتطهر وارجع إلى الله، وسوف يردك سريعاً إلى حالتك السابقة. مثال ذلك، 22: 21: «تعرف به وأسلم. بذلك يأتيك خير».

لاهوت سليم لكن ضيق الأفق

كان لاهوتهم سليم ومنظم، ولا يعترف بنهايات مفتوحة. فكان يشرح الأمور بصورة جيدة للغاية، حتى أنه لم يكن عليهم أن يزعجوا أنفسهم بالتفكير، فكان كل شيء معد لهم في نظريتهم الخاصة بالعقاب. لكن ماذا إذا كانت بعض الحقائق لا تتفق جيداً مع أسلوب تفكيرهم؟ إما أن يتجاهلوها أو يجبروا الحقائق على أن تتفق مع تفكيرهم. فهؤلاء الناس لا بد وأنهم يتعجبون من عنوان هذا الكتاب الصغير، لأنه بحسب تفكيرهم (وتفكير البعض اليوم)، أن الأتقياء لا يتألمون، بل الأشرار فقط!

لكن كما رأينا في الفصل الافتتاحي، يعلمنا الكتاب المقدس أن بعضاً من الآلام تكون عقاباً للخطية، لكننا لا يجب أن ننظر إلى كل ألم باعتباره عقاب للخطية. فما كان أصدقاء أيوب يفعلونه هو أنهم كانوا يخطئون فهم جزء من الحق باعتباره هو كل الحق. لكن النتيجة كان مروعة، لقد أضافوا ألماً لشخص كان بالفعل على وشك الانهيار، بأن حاولوا أن يجعلوه يترك واحداً من الأشياء القليلة المتبقية لديه والثمينة عنده، وهو كماله واستقامته. إذ حاولوا لي ذراعه بالكلام، ليجبروه على قول ما لا يعتقد أنه صحيح. بل أنهم أيضاً أعموا أعينهم، إذ سبق وتجاهلوا أي احتمال لتوسيع فهمهم. فحيث أن كل شيء كان قاطعاً وجافاً، فإنهم لم يفكروا في أي احتمال آخر. على وجه التحديد، احتمال أنه ربما كانوا هم الذين على خطأ، وليس أيوب. فهذا الاحتمال لم يرد على ذهنهم إطلاقاً!

نجد هنا تحذيراً لنا جميعاً. فمهما كنا مخلصين، لا بد أن نكون حذرين لئلا نصبح مثل أصدقاء أيوب الذين كانوا يعتقدون أنهم يعزونه. بداية، كان من الواضح أنهم لم يسمعوا حقاً ما كان أيوب يقوله. لقد تركوه يتكلم، وسمعوا اعتراضاته وشكواه، نعم، ولكنهم لم يعيروها اهتماماً يذكر. وهذا جارح، لأنك عندما تجتاز بأزمة وبألم عاطفي مبرح، فإن آخر شيء تود أن تسمعه هو الاعتداء على استقامتك الشخصية، أو أن يعاملك شخص ما كما لو كنت أقل من إنسان، دون تفكير أو مشاعر – بل فقط كشيء يتم مهاجمته “بالإجابات الصحيحة”. فيبدو أن اهتمام هؤلاء الأصدقاء بأيوب، كان يطغى عليه اهتمام أكبر، وهو أن يحتفظوا بمعتقداتهم كما هي دون أي تغيير. فكان الأهم بالنسبة لهم هو ألا يسمحوا لأفكارهم أن تتعرض للشك. كان ذلك أكثر أهمية من أن يصلوا إلى معرفة الحق، الذي يمكن أن يكون غير مريح بالنسبة له. إنه أمر محزن أن المسيحيين ليس لديهم مناعة ضد هذه العادة السيئة، وهي دفن رؤوسهم في الرمال بدلاً من التفكير بجدية في حل سليم.

لكن ربما الأسوأ من ذلك هو القسوة في إضافة شعور غير سليم بالذنب إلى آلام الشخص. ومن الأمثلة الحديثة على هذا الأمر هو شيوع فكرة “الشفاء بالإيمان”، أو ما يطلق عليه تعليم “اذكر اسم المرض وانتصر عليه”. فيقول هذا التعليم أنه إذا كان لديك مرض ما، وكان لك الإيمان الكافي، فإنك ستشفى منه، فإذا لم تشفى منه فهذا لأنه ليس لديك إيمان كاف لذلك، أو لأن زوجتك ليس لديها إيمان كاف. هل هذه مبالغة؟ ها هي رواية كتبها طبيب مسيحي بارز عن حملة شفاء في هورسفورث ليدز منذ عدة سنوات مضت:

«في إحدى الليالي. كان أحد أصدقائي الذي يعاني من الصمم في إحدى أذنيه، يعتقد أن بإمكانه الشفاء، فتم وضع الأيادي عليه، وأخبروه أنه قد شفي، ولكنه قال إنه لم يُشف. فصمم الخادم الذي يقوم بالشفاء على أنه قد شفي بالفعل، لكن صديقي أكد أنه لم ينل الشفاء. فما كان من الخادم إلا أن قال له إنه ليس لديه الإيمان الكافي لذلك فإنه لم يُشف. وبعد شجار كلامي قصير استمر الخادم في استكمال شفاء الصمم. وعندما انتهت عمليات الشفاء من الصمم. التفت صديقي إلى امرأة جالسة قبالته، وقال لها: “ماذا فعل لك يا عزيزتي؟”، فأجابته بعد أن وضعت يدها على أذنها محاولة السمع: “ماذا قلت؟”»[2].

هذا النوع من اللاهوت ليست له نهايات مفتوحة، فهو لا يعترف بمجرد وجود آلام للأبرار والأتقياء، مما يضيف آلاماً أخرى إلى المتألمين بالفعل.

الكمال يهم

مهما قالت الأغلبية، ومهما كانت تعاليم أصدقائه صحيحة، ومهما كان هناك زعم بإعلانات خاصة تلقوها، كان أيوب يعرف الحقيقة، ولم يكن ليضحي باستقامته وكماله على مذبح المعتقدات الشعبية المحكمة. رغم أنه كرجل بريء، بعد هذه الاستجوابات المطولة بواسطة أصدقائه المصرين، كان يمكن أن يستسلم ويجد وسيلة للهرب بقوله: «حسناً، أنا مذنب، فقط أخرجوني من هذا الجحيم الذي أنا فيه». لكن أيوب كانت لديه الشجاعة لأن يقول “لا” مهما كان ما يحدث، ليس هذا خطؤه، ولن يجبره أحد على أن يتظاهر بالاتضاع الزائف، ويعترف بشيء لم يفعله:

«حي هو الله الذي نزع حقي والقدير الذي أمر نفس إنه ما دامت نسمتي فيّ ونفخة الله في أنفي لن تتكلم شفتاي إثماً ولا يلفظ لساني بغش. حاشا لي أن أبرركم، حتى أسلم الروح لا أعزل كمالي عني». (أيوب 27: 2-5)

يحاول أيوب بلا جدوى أن يظهر لأصدقائه أنهم هم الذين فهموا الأمر خطأ، لكنهم كانوا يتمسكون باعتقادين: الأول هو أن كل الأشرار يتألمون، أما الثاني فهو أن كل الذين يتألمون هو أشرار. وكل من هذين الافتراضين باطل من الأصل، يقول أيوب. ففي أصحاح 21، يشير أيوب إلى أن الكثيرين من الطغاة والظالمين قد عاشوا حياة مريحة وماتوا بسلام في بيوتهم. فليس من الصحيح أن نقول ببساطة أن الأشرار لن ينجوا بفعلتهم، لأنه من الواضح انهم في كثير من الأحيان ينجون. وقد كانت هذه هي الحال دائماً، مع بعض الاستثناءات القليلة. اسأل اللصوص ومروجي المخدرات، ما إذا كانت الجريمة مفيدة. وسيعتبرونك مخبولاً، فهي بالطبع مفيدة، وسيشيرون إلى المجوهرات التي لديهم والمنازل الفاخرة لإثبات رأيهم. بل الأكثر، يقول أيوب، ليس من الصحيح أن نقول إن كل الذين يتألمون هو أشرار، انظر إليّ أنا مثلاً!

ففي الأصحاحات 29-31 يقدم أيوب أكثر الروايات المؤثرة عن كل الأمور الصالحة التي عملها قبل أن ينهار عالمه. فقد كان أميناً، ومنضبطاً، ساعد الفقراء، وأعان العميان، وعزى النائحين، وقطع عهداً ألا ينظر نظرة شهوة إلى فتاة. كما أنه فتح بيته لغرباء لا عدد لهم، ولم يفرح أبداً لبلاء أحد قائلاً: «إنه يستحق ذلك»، ولم يتكل أبداً على ثروته وغناه. كل هذا يذكرنا بشخص آخر تم اتهامه باطلاً أيضاً، إذ كان الناس يصرخون يوم الجمعة العظمية «لا بد أنه شرير، لأن الأشرار فقط هم الذين يصلبون»، فالكتاب المقدس يقول ذلك في تثنية 21: 22-23، «لقد خلص آخرين، فليخلص نفسه». كان هذه هي الكلمات القاسية للمعزين الباطلين ليسوع. ورغم أن أيوب لم يكن يعرف ذلك، فقد كان أيوب في رفقة جيدة بالفعل، في رفقة ابن الله نفسه.

الله فقط هو الذي يفعل ذلك

ما أراده أيوب لم يكن مجرد حل نظري لمشكلة، «لماذا يسمح الله بالشر؟» فهناك العديد من الأسئلة البارعة المتنوعة التي يحاول الفلاسفة والمتشككون طرحها. ولكن أيوب كان يريد أن يتقابل مع الله، وكان يريد أن يسمع صوت الله، ويحاوره بشأن سماحه بحدوث مثل هذه المصائب المؤلمة:

«قد كرهت نفسي حياتي. أسيب شكواي، أتكلم في مرارة نفسي قائلاً لله لا تستذنبي فهمني لماذا تخاصمني. أحسن عندك أن تظلم أن ترذل عمل يديك وتشرق على مشورة الأشرار». (أيوب 10: 1-3).

لقد اتجه أيوب إلى الله ليتضرع إليه لكي يظهر له العدل مرة واحدة ويفسر له سبب هذا الظلم. لأن أيوب كان مقتنعاً أنه مظلوم، وأن هذه الأحداث الظالمة قام به الله نفسه، وهذا هو الأمر الذي يجرحه أكثر من أي شيء آخر، ففي عمق حزنه واكتئابه، كان يشتاق إلى الأيام التي اختبر فيها عطف الله ولطفه:

«وعاد أيوب ينطق بمثله فقال يا ليتني كما في الشهور السالفة وكالأيام التي حفظني الله فيها حين أضاء سراجه على رأسي وبنوره سلكت الظلمة. كما كنت في أيام خريفي ورضا الله على خيمتي والقدير بعد معي وحولي غلماني إذ غسلت خطواتي باللبن والصخر سكب لي جداول زيت» (أيوب 29: 1-5).

أليست هذه كلمات مؤثرة؟ لقد كان يريد أن يكون مع الله.

لكن الأمر المدهش هو أنه على الرغم من أي أيوب كان يجتاز بتلك التجربة الشديدة، وأغوى بأن يجدف ويلعن، إلا أنه لم يتوقف عن إيمانه بالله، ولم ينزلق أبداً إلى الإلحاد – فهو ببساطة لم يكن يستطيع ذلك:

«هوذا يقتلني، لا أنتظر شيئاً. فقط أزكى طريقي قدامه. فهذا يعود إلى خلاصي أن الفاجر لا يأتي قدامه» (أيوب 13: 15-16).

كان أيوب شديد الاقتناع ببراءته، حتى أنه كان مستعداً أن يموت لو كانت هذه هي الطريقة التي يمكنه بها المجيء أمام الله لتبرير نفسه، لأنه كان واثقاً أن الله سيبرئه. ولكنه كان يريد الله نفسه. نعم كان يريد تفسيراً، ونعم كان يريد تبرئة نفسه، ولكن فوق كل شيء كان الله هو كل ما يريده. وكما سنرى في الفصل التالي، لقد حظي بشوق قلبه في النهاية، لكن ليس قبل أن يذرف الكثير من الدموع.

ومثل أيوب، نحن أيضاً يجب ألا نرضى إلا بالمعرفة الشخصية الحقيقية لله. لا ترضى بنظريات عنه، أو بأفكار حاذقة عن مشكلة الشر – لا تقنع بأقل من معرفة الله نفسه، مهما كان كم الدموع التي يجب أن تذرفها خلال هذه العملية.

لكن، أين يوجد الله؟ دوناً عن كل الأماكن الأخرى، على الصليب، فإذا كنا نريد حقاً أن نعرف من هو الله، وتكون لنا تلك العلاقة الحميمة معه، فهناك هو المكان الذي يجب أن نبدأ منه، إلى جانب ابن الله يسوع، الذي عرف هو أيضاً غيوم الألم المظلمة والرفض وسوء الفهم، والذي بعد أن اجتاز عبر كل ذلك، هو الذي يحكم الآن عالمنا المحطم هذا، وبحسب تعبيرات كاتب العبرانيين، الذي كان يسعى لتشجيع المؤمنين المحدثين الذين امتحن إيمانهم بقسوة مثل أيوب: «ولكن الذي وضع قليلاً عن الملائكة يسوع نراه مكللاً بالمجد والكرامة من أجل ألم الموت لكي يذوق بنعمة الله الموت لأجل كل واحد». (عبرانيين 2: 9)، فهناك عند الصليب، نجد الله.

[1] اقتبسها جون ستوت في كتابه The Cross of Christ، ص 312 (IVP، 1986).

[2] بروفيسور فيرنا رايت A medical view of miraculous healing, in Sword and Trowel، 1987، رقم 1.