عامأبحاثإلحاد

مشكلة الألم – تعقيب لاهوتي

مشكلة الألم – تعقيب لاهوتي

مشكلة الألم - تعقيب لاهوتي
مشكلة الألم – تعقيب لاهوتي

مشكلة الألم – تعقيب لاهوتي

«وخلاصة القول، إذ نحن نؤمن بأن كل ما يجري في حياتنا إنما بترتيب إلهي وتحت سلطان أب محب، تستكين أفئدتنا وتمتلئ قلوبنا بالشكر. والسر في ذلك أننا قد سلمنا أنفسنا وكل ما لنا له.»

(جون كالفن 1550م)[1]

 

في الاقتباس السابق لجون كالفن، نستطيع أن نميز أنه مع وجود من يؤمن بأن كل ما يجري في حياته هو بترتيب من الله المحب وتحت سلطانه، فهناك أيضاً من فقط “يعرف” ذلك ولكن قلبه يمتلئ ليس بالشكر بل بالغضب والغيظ والحنق نحو الله، يمتلئ عملياً أيضاً بالإيمان بالقدر والاستسلام والسلبية والتواكل والإحساس بالعجز تجاه قدر يتحكم فيه كدمية بلا حول ولا قوة. ولا تقودنا هذه المعرفة إلى سكينة الفوائد والفيض بالشكر بل إلى الغضب.

الكلمة المفتاحية في هذا الاقتباس هي “الإيمان”، أن الشخص يؤمن أن كل ما يجري في حياته هو من ترتيب إلهي وتحت سلطان إلهي، حتى السماح بالشر والألم وبالخطأ الشخصي الذي يتحول للخير للذين يحبون الله، ونتيجة هذا “الإيمان” أن الشخص يخضع ويقدم كل نفسه وكل ماله للإله مالك هذه الحياة، وقتها يستكين الفوائد ويمتلئ قلبه بل يفيض بالشكر لله.

في هذا الجزء الأخير من الكتاب، أود أن أقدم تعقيباً لاهوتياً عن التجربة واختبار الألم. ولأجل الدخول في هذا التعقيب لابد من مناقشة فكرة تمهيدية أولاً تعمل كقاعدة لهذا التعقيب. وهذه الفكرة تأتي تحت عنوان:

هل نحن ملكاً لأنفسنا؟

لن ينجو إنسان في هذه الحياة وينتصر وينجح بمقاييس الخالق إن لم يقف أمام هذا السؤال ويجد الإجابة الصحيحة عليه، والفشل كل الفشل في الحياة إن لم يقف أمامه أو يقف لكنه يصل للإجابة الخاطئة.

يقول إرميا في مراثيه: «إنه من إحسانات الرب أننا لم نفن، لأن مراحمه لا تزول» (مراثي 3: 22)

ما يخبرنا به الوحي هنا، أن استمرارنا، نحن البشر، في الوجود بعد السقوط ليس إلا إحسان من الله ونعمة وفضل لا نستحقه. فالطبيعي أن الإنسان عندما يسقط موتاً يموت، وهو بالفعل مات موتاً أدبياً وانتهت العلاقة مع الله. فإذا كان الله أعطى فرصة أخرى للإنسان في أن يُوجد، وهو ما يسمى بـ “تدبير الخلاص”، فهذا ليس أمر مسلم به لكنه إحسان ونعمة لا نستحقها، وهذا ما يتحدث عنه إرميا. وعلى سبيل المثال حدث أمر جزئياً في الطوفان إذ تصاعد شر الإنسان، والله لا يحتمل الشر ولا يستطيع أن يتصالح معه. فمحا الله الإنسان. من الطبيعي أن يفن الإنسان ولا يوجد. فإذا سمح الله للإنسان أن يكون موجوداً إلى الآن فهذا ليس من حقنا.

أيضاً يقول أليهو عن الله: “إن استرجع روحه إليه واستجمع نسمته إلى نفسه، فالبشر جميعاً يفنون معاً، ويعود الإنسان إلى التراب” (أيوب 34: 14، 15).

ماذا يريد أن يقول لنا الكتاب هنا؟

إن ما يخبرنا به الكتاب المقدس هنا ببساطة هو أن حياتنا (مجرد أننا أحياء) هي هبة من الله وليست حق مكتسب. والعهد الجديد (عهد النعمة) لا ينفي هذا المفهوم بل يؤكده، إذ يقول أننا “اشترينا” أي أننا ببساطة لسنا ملكاً لأنفسنا. «أم لستم تعلمون…. وأنكم لستم (ملكاً) لأنفسكم؟ لأنكم قد اشتريتم بثمن… » (1كو 6: 19، 20). «… لكي يعيش الأحياء فيما بعد لا لأنفسهم بل للذي مات لأجلهم وقام» (2كو 5: 15). «إن عشنا فللرب نعيش وإن متنا فللرب نموت، إن عشنا وإن متنا فللرب نحن» (رو 14: 8).

أي أن صحتنا وفلوسنا وزواجنا وأولادنا وعائلاتنا وخدمتنا وعملنا ووقتنا وقراراتنا ومواهبنا وأفكارنا واختباراتنا وأجسادنا وممتلكاتنا وإنجازاتنا ومبتكراتنا، وكل ما هو لنا وكل ما نحن عليه ونكونه ليس ملكاً لنا ولكننا فقط وكلاء عليه.

كما يقول العالم اللاهوتي واطسن في تعليقه على (عب 13: 16): «إننا وكلاء… عبيد استودع سيدنا ودائع بين أيدينا لنستخدمها بحسب توجيهاته. فما بين أيدينا ليس لنا، ولا حق لنا في امتلاكه، إلا تحت الظروف التي أودع فيها لدينا. وسوف نعطي حساباً عن استخدامنا لتلك الودائع، على أساس هذا القانون.»[2]

أيضاً يقول الرسول بولس: «… هذه الأمور كلها لكم، وأنتم للمسيح، والمسيح لله. فلينظر إلينا الناس باعتبارنا خداماً للمسيح ووكلاء على أسرار الله. والمطلوب من الوكلاء، قبل كل شيء، أن يوجد كل منهم أميناً» (1كو 3: 22 – 4: 2 “كتاب الحياة”)

ولذلك يقول: «فإذاً كل واحد منا سيعطي عن نفسه حساباً لله.» (رو 14: 12).

المشكلة هنا أنه قد يظن أو يتوهم الإنسان في كبرياءه أن هذه الوكالة قد صارت ملكاً له أو “حقاً” مكتسباً نتيجة الفهم الخاطئ للفداء والتبرير والتبني والنعمة، ويظن أنه يستطيع أن يفعل ما يريده، وهذا ما يسميه بولس الرسول عدم أمانه (خيانة الأمانة/ اختلاس)، وفي هذه الحالة يجب أن نوجه لأنفسنا هذا السؤال: «كيف اكتسبنا هذا الحق (أن أملك حياتي لأفعل بها ما أريد في أي وقت)؟ ماذا فعلنا أو دفعنا في المقابل لكي نكتسبه؟ «وأي شيء مما لك لم تكن قد أخذته هبة؟» (1كو 4: 7 “كتاب الحياة”) أي أن كل ما لك لم تكتسبه عن حق، وإلا فأين إثبات الملكية؟!

فنحن عندما نعطي ونسلم لله حياتنا فإننا لا نمنحه شيئاً، لأننا لا نستطيع أن نمنح ما لا نملك، ونحن لا نمتلك شيئاً، وبالتالي فنحن لا نتفضل بشيء في تسليم حياتنا لله، بل إننا نرد له حقه في امتلاكنا الذي سلبناه بالسقوط.

«أو من سبق فأعطاه فيكافأ (أي من كان له السبق في العطاء؛ هل الإنسان هو الذي أعطى الله أولاً، أم أن الإنسان أعطى لأنه قد أُعطي من الله أولاً؟). لأن منه وبه وله كل الأشياء. له المجد إلى الأبد. آمين. (رو 11: 35، 36).

وهنا يقول القديس توما الكمبيسي متحدثاً للإنسان بلسان حال الله: «فمتى وهبت وهبت ما هو لي، ومتى نزعت لم أسلبك ما هو لك، لأن كل عطية صالحة وكل موهبة كاملة هي لي (يع 1: 17)» (الاقتداء بالمسيح 3: 30).

وعلى الجهة الأخرى، مجرد أننا لا نعطي الله حياتنا وكل ما هو لنا فهذا سلب منا لحق الله. ولذا فإن غير المؤمن يستحق قضاء الأبدية بعيداً عن الله (وذلك هو معنى الجحيم) فقط لأنه سلب الله حقه في أن يمتلك هذه النفس التي خلقها أولاً وكذلك اشتراها بدمه وله كل الحق في أن يفعل بها ما يشاء. وهذه هي خطيتنا الأولى والأصلية حتى وقبل أن نخطئ بالفعل. فنحن نولد خطاه مديونين وسالبين لله حقه «ها أنذا بالإثم صورت وبالخطية حبلت بي أمي.» (مز 51: 5). فدعونا نلاحظ الصيغة اللغوية في (يو 3: 18، 19) حين يقول «إن الذي يؤمن به لا يدان (ينجو من الدينونة الواقعة عليه بالفعل) والذي لا يؤمن قد دين (مسبقاً في زمن الماضي التام)»، وإن هذه الدينونة واقعة على الإنسان بالفعل لأنه «أحب الظلمة أكثر من النور» (يو 3: 19)، أو بكلمات أخرى لم يكن الله هو حب الإنسان الأولى وصاحب حق الملكية والولاء والتكريس الأوحد! ولذلك فإننا أيضاً، ولنفس السبب السابق، عندما نعطي الله حياتنا ونضحي لأجله ليس لنا أن ننتظر مقابل، إذ أننا في الحقيقة لم نعطه شيئاً من عندنا (شيئاً نمتلكه)، إننا فقط نرد لله الدين. فنحن مديونون له بحياتنا وبكل ما لنا.

إن ما تقدم وشرحناه يجعلنا لا نملك حق المطالبة Demand، مطالبة الله. فإن كلمة مطالبة Demand تختلف كلية عن الطلب Seeking أو السؤال Asking تلك الكلمات التي استخدمها المسيح في (مت 7: 7). فالمطالبة Demand تستخدم للتعبير عمن له الحق.

ولذلك فنحن عندما نطالب الله بشيء فإن هذا يعني أن هناك مديونية على الله عليه ردها، وواجب يجب عليه should/ ought to أداؤه. وهذا ليس فقط خطية وإنما أيضاً فكرة ولاهوتي وفلسفي. لأنه إن كان على الله واجب، فمن ذا الذي فوق الله بحيث يضع عليه هذا الواجب؟ ومن هو أكبر وأعلى من الله ليكون الله له مديوناً؟

يقول أليهو: «من وكل الله بالأرض؟ ومن عهد إليه بالمسكونة؟» (أي 34: 13 “كتاب الحياة”).

وهو نفس ما يخبرنا به الفيلسوف وعالم الرياضيات الفرنسي ديكارت حين يقول بأن الله لا يحب عليه شيئاً.[3]

فترى ماذا يحدث عندما نطلب من الله أمراً ما أو نسأله إجابة ما – كما في مثل الفتاة غير المتزوجة، بالفصل السابق، والتي تطالب الله بتوفير الزواج لها، ماذا يحدث عندما نطلب بكل لجاجة وبدالة البنين ويتأنى هو في رده أو يصمت ولا يجيب على الإطلاق، أو قد يجيب بما يخالف رغباتنا وتصوراتنا عن شكل الاستجابة؟ (وهنا لا بد أن نلاحظ أن مفهوم البنوة في العهد الجديد لا يبطل علاقتي بالله كمخلوق تحت الخالق).

أمام كل منا أحد اختيارين في هذا الوقت:

1 – التمسك بالثقة في الله كأب صالح وبالإقرار به كرب وسيد على حياتي ومالك لها بالكامل، وبالتالي قبولي لمواقفه من حياتي رغم عدم فهمي وحيرتي، دون ما إنكار لما أعانيه من ألم حقيقي.

«الرب أعطى الرب أخذ ليكن اسم الرب مباركاً» (أي 1: 21).

وهذا الاختيار يظهر تماماً في تمسك أيوب هنا بعلاقته المستقيمة Integrated والكاملة مع الله رغم محنته الرهيبة ورغم عدم فهمه أو إدراكه على الإطلاق لأي سبب أو غرض منطقي وراء ما يفعله الله. («فقالت له امرأته أنت متمسك بعد بكمالك. بارك الله ومت.» أي 2: 9).

فأيوب كان يعرف أن الله له الحق الكامل في أن يفعل ما يفعله في حياة أيوب لأنها ملكاً لله وليست له هو. «ألخير نقبل من عند الله والشر لا نقبل» (أي 2: 10)، أو كما يقول بولس: «بل من أنت أيها الإنسان الذي تجاوب الله. ألعل الجبلة تقول لجابلها لماذا صنعتني هكذا؟! أم ليس للخزاف سلطان على الطين.» (رو 9: 20-21). وهكذا أيضاً يجب أن يكون موقفنا، تماماً كما عبر جاليليو تجاه فقدانه للبصر في نهاية أيامه، قائلاً: «هكذا أراد الله، ولا بد أن أريد هذا أنا أيضاً». في هذا الموقف الصحيح تتحد إرادتنا خاضعه بإرادة الله فلا نقع في حالة اليأس والتمرد والتمزق الداخلي بسبب ما نعانيه من ألم.

منذ عشر سنوات، أو أكثر قليلاً، مررت أنا وزوجتي بتجربة قاسية عندما أخبرها الطبيب أن لديها ورماً خبيثاً، لقد ظللنا ما يقرب من ساعة ونصف ذاهلين صامتين غير قادرين على الاستيعاب. بعد نصف ساعة أخرى، تواجهنا بما كنا قد تعلمناه وآمنا به، أنه في النهاية نحن نقبل الأمر طالما سمح به الرب لنا، واثقين من أنه أفضل ما يمكن أن يحدث لنا، حتى وإن كان ذلك يعني فقداني لزوجتي! وعليه بدأنا نهيئ أنفسنا، حتى عملياً، لهذا الأمر! لقد ساعدنا القبول على تحمل الأمر بكل ما تضمنه من آلام الجراحة ما تبعها من علاج كيماوي وإشعاعي وألم عدم اليقين إلى ماذا سينتهي بنا ذلك. لقد علقت زوجتي على جدران الشقة ملصقات عديدة بها ما همس به بول تورنييه، ذلك الإنسان المشوري المسيحي العظيم، في أذن صديقه الذي يحتضر على فراش الموت؛ أن «القبول هو كل شيء. ليس أهم شيء أن تفهم بل أن تقبل». قبلها بخمس سنوات اجتزنا في تجربة مماثلة عندما كان هناك اشتباه بنفس المرض لم يكن باستطاعتنا تحمل الأمر. كنا كمن هبطت السماء على رأسه، وكل انشغالنا وقتها كان لماذا… نريد أن نفهم مقاصدك وحكمتك…. أتعرف ماذا تفعل بحياتنا؟ كنا باحتياج وقتها لسنوات خمس لتعلم القبول ومعنى تسليم حياتنا لله.

وفي هذا يقول جيري بريدجز في كتابه “الثقة بالرب”: «عندما تحدث مثل هذه الأمور قد نتألم. لا نستطيع أن نتغاضى عنها بمجرد التعبير بسطحية بالقول “الله له كل السيادة”. نعم الله له كل السيادة ولكن في سيادته يسمح لنا أن نجتاز في الألم. الألم شيء حقيقي. فنحن نتألم ونعاني، ولكن في وسط الألم والمعاناة يجب أن نؤمن أن الله له السيادة المطلقة.»[4]

2 – الاختيار الثاني الموضوع أمام كل منا في مثل هذه الحالة هو التحول من الطلب والسؤال إلى المطالبة وكأن لي حق ما حرمني الله من التمتع به أو سلبني إياه وأنا هنا أطالبه بهذا الحق المزعوم. وهذا الاختيار المتعجرف يعبر بوضوح عن خطية الإنسان الأصلية من جهة الكبرياء والثورة والتمرد على الله.

إن الله يقدر ألم الحيرة وعدم الفهم الذي قد نعاني منه فوق معاناتنا الأساسية وقت التجربة (الله لا يستنكره وبالتالي أنت لا يجب أن تستنكر الألم فتقع في الكبت أو الإنكار)، وهو يقدر سؤالنا المتضع وطلبنا غير المشروط – كمخلوق تحت الخالق – للفهم. الإنسان يستطيع أن يسأل «لماذا يا رب!» وهو في منتهى الاتضاع وهو يعرف مكانه – كمخلوق تحت الخالق – دون أن يتحول إلى مطالب لله أن يعطيه الإجابة. ولكن عدم فهمنا هذا لا يعطينا أبداً المبرر أو الحق في مطالبة الله بأن يعطي حساباً عن نفسه وأن يكون مطالباً بالإجابة عن سؤال “لماذا؟” إن لم يستجب لنا بالكيفية التي نتوقعها نحن، وكأنه تحت المساءلة ولابد له من الاستجابة أو تقديم التفسير، كما لو كانت احتياجاتي – أو احتياجاتي للفهم – هي فوق الله، كما فعل أيوب لاحقاً حين طلب محاجاة الله واستجوابه كمن هو متهم وسالب حق «غير أني أود أن أتحدث إلى القدير، وأحاججه (أعاتبه وأجادله) بشأن قضيتي. ها أنا أعددت دعواي، وأعرف أني على حق. فمن يثبت تهمة علي؟ فإن فعل (الله) فإني سأخرس وأموت.» (أي 13: 3، 18، 19 “من ترجمتي العربية المبسطة، والعربية المشتركة”).

فمجرد توجيه السؤال “لماذا؟”، بهذه الكيفية، إلى الله، أو عبارة “لابد”، هو أمر لا يخلو من الخطية والتعدي، إذ فيه يضع الإنسان نفسه في موقع أعلى من الله وفي موقف يوجه فيه المساءلة والاتهام الذي يشكك في صلاح الله وصلاحيته لقيادة الحياة. وبالطبع هذا الموقف الخاطئ لا يعبر إلا عن كبرياء وتمرد الإنسان الساقط. ولذلك قال لاري كراب أن مطالبة الله هي خطية.

أيضاً يقول القس بول كارام: «ليس للإنسان حق في أن يطلب من الله تفسيراً، فمعنى أن تفعل هذا أنك تقلل من شأن الله، وترفع من شأن نفسك فوق الله. ليس على الرب أن يعطي حساباً لأي شخص.»[5]

ولنستأنف اقتباس جيري بريدجز بالفصل السابق، والذي يقول فيه: «أحياناً يمكن أن نرى فيما بعد النتائج الطيبة للتجارب في حياتنا، ولكننا من النادر أن نراها أثناء التجربة… ولكن سواء رأينا نتائج طيبة في هذه الحياة أم لا، فنحن مطالبون أن نثق بالرب أنه في محبته يعمل ما هو لخيرنا، وفي حكمته يعرف كيف يحقق هذا الخير، لذلك لا ينبغي إطلاقاً أن نسأل “لماذا؟” بهدف مطالبة الله ليفسر لنا أو ليبرر أعماله أو ما يسمح به في حياتنا. وعندما أقول لا يجب أن نسأل الله “لماذا؟” فإنني لا أتحدث عن صراح الألم التلقائي عندما تحل كارثة بنا أو بأحد أحبائنا، ولكنني أتحدث عن المطالبة الملحة “لماذا؟” والتي تحمل نغمة الاتهام نحو الله.»[6]

هنا إذن يسقط الإنسان في أن يجر الله بدلاً من أن يخضع هو لتجربة الله له، كما يقول المفسر ج. أ. طومسون في تعليقه على (تث 6: 16): «إن تجريب الله يعني فرض أوضاع عليه وجعل رد فعله نحو ما يطلبه منه شعبه في وقت التجربة شرطاً لاستمرار مسيرتهم معه. فعندما احتاج الشعب في البرية إلى الماء، طلبوا من موسى أن يأتيهم بالماء ليجربوه ليقرروا إن كان الرب بينهم أم لا (خر 17: 7)، ولكن عملاً كهذا كان وقاحة منهم ودليلاً على عدم الإيمان، لأنه يرفض العلامات التي سبق أن قدمها الله من قبل ويطلب علامات أخرى تكون مقبولة لدى الإنسان. فعندما شعر الشعب بالشك في وقت الحاجة والضيق وأظهروا عدم ثقتهم في سيادة الله وسلطانه آنذاك، أرادوا أن يأخذوا زمام المبادرة بأيديهم، ويجبروا الله على أن يثبت لهم وجوده بطريقة استعراضية على حسب ما يريدون. وقد رفض يسوع أن يقوم بمثل تلك الأعمال التي طلبها منه الكهنة والفريسيون (مت 12: 38، 39)»[7]

وفي هذا يجب أن نستشهد بقول القديس توما الكمبيسي: «رب، ما حق الإنسان عليه حتى تهبه نعمتك؟ رب، هل لي أن أشكو أمراً إن أهملتني؟ أو أن أحتج بحق، إن لم تقض لي ما أسأل؟» (الاقتداء بالمسيح 3: 40).

ومن الجدير بالذكر هنا أن تمردنا هذا على الله قد يكون لا شعورياً (غير واعياً) أي مختبئاً في عقلنا الباطن دون أن ندري له على الإطلاق، كما ذكرنا بشأن الكبت والإنكار في الفصل الأول من هذا الكتاب، لأننا مسيحيون جيدون – كما نعتقد – ونحب الله فلا يمكن لنا أن نتواجه مع حقيقة وواقع أننا متمردون ومتذمرون على الله. فنظل نسير في فعاليات وديناميات الخدمة والعبادة ونحن نحمل في داخلنا خيبة أمل شديدة ورفض عميق لله ولسيادته على حياتنا.

ولنكمل الآن الاقتباس الذي بدأناه الفصل السابق لفرانسيس شيفر، إذ يقول: «وعندما ينقصني الرضا والقناعة المناسبة فقد يحدث أن أنسى أن الله هو الله أو أن أكف عن الخضوع له. وإذا مضت القناعة وكذلك توقف تقديم الشكر فإننا لا نحب الله كما يجب، كما أن الرغبة اللائقة المشروعة تكون قد تحولت إلى شهوة ضد الله. وهذه المنطقة الداخلية هي أول مكان يفقد الروحانية الحقيقية. ودائماً يكون الإظهار الخارجي مجرد نتيجة لما بالداخل.»[8]

قد يصل تمردنا أحياناً إلى أن يكون تمرداً واعياً، فنتهم الله بالظلم وعدم العدل لمسؤوليته النهائية عن الأحداث، ونحن في جهلنا وضآلتنا لا نستطيع أن نرى الصورة كاملة، ولا نستطيع أن نفهم كل ما يدور خلف الأحداث، فنقول كما قال أيوب: «إن لم يكن هو (أي الله)، إذاً من هو؟» (أي 9: 24 “كتاب الحياة”). «إنما الله يتربص بي ليجد علة عليّ ويحسبني عدواً له، ويضع أقدامي في المقطرة، ويترصد سبلي.» (أي 33: 10، 11 “كتاب الحياة”) «إني بار، ولكن الله قد تنكر لحقي.» (أي 34: 5 “كتاب الحياة”) «أبعد يديك عني توقف عن ترهيبي بخوفك، ادعني أنا سوف أجيبك أو دعني أنا أتكلم وأجب أنت، ما هي ذنوبي وخطاياي أجبني يا لله، أرني أين جريمتي وخطيتي؟!» (أي 13: 21-23 “الترجمة المبسطة”) ونختم حديثنا بإجابة الله على لسان إشعياء، إذ يقول: «فكيف تجرؤ يا إسرائيل أن تقول إن الرب لا يرى محنتي وطريقي خافية عليه (فات حقي إلهي)؟» (اش 40: 27 “كتاب الحياة”).

إن نقص محبتنا لله هو السبب الذي يجعلنا نقع في تلك الجرأة الوقحة المتبجحة. فنحن، كما يقول شيفر، نحتاج أن نحب الله بالدرجة التي تجعلنا نستمر نثق فيه ونخضع له فوق كل شيء حتى وإن لم تكن الصورة واضحة لنا أو مفهومة، فهذا هو المعنى الحقيقي للإيمان بالمسيح وبملكه على حياتنا وليس مجرد فقط أننا قبلناه في حياتنا كمخلص شخصي يوماً ما!

وفي الختام أود أن أنهي بمجموعة الاقتباسات التالية:

«القبول هو الإجابة لجميع مشاكلي اليوم. فحينما أصاب بالاضطراب، فإن ذلك يرجع إلى أني أجد أن شخصاً ما، أو مكان ما، أو شيئاً ما، أو موقفاً ما أو واقعاً ما في حياتي غير مقبول مني. وإني لن أجد الراحة والهدوء حتى أقبل أن هذا الشخص، أو المكان، أو الشيء، أو الموقف هو ما يفترض أن يكون عليه تماماً في هذا اللحظة. لا شيء، ولا شيء على الإطلاق يحدث في عالم الله بطريق الخطأ. فإن لم أقبل الحياة كما تأتي، لن أكون سعيداً. فأنا أحتاج أن لا أركز كثيراً على ما يحتاج أن يتغير في العالم بقدر ما أحتاج أن أركز على ما يحتاج أن يتغير فيّ وفي اتجاهاتي الداخلية»

من منهاج مؤسسة “مدمني الخمر مجهولي الاسم AA” الدولية 1939 (صفحة 449).

«يا رب امنحني

السكنية لكي أقبل الأشياء التي لا أستطيع تغييرها

والشجاعة لأغير تلك التي أستطيع تغييرها،

والحكمة في أن أعرف الفرق بينهما»

صلاة الشعار لمؤسسة “مدمني الخمر مجهولي الاسم AA

وأيضاً للكاتب جيري بريدجز نأخذ الاقتباس التالي:

«الثقة بالرب وسط الألم والمحن يعني أننا نقبلها منه. يوجد فرق شاسع بين القبول وبين الخضوع (الخنوع)[9] والاستسلام. يمكننا أن نستسلم لموقف صعب لأننا لا نجد بديلاً، وكثيرون يفعلون ذلك. كما ويمكننا أيضاً أن نخضع لسيادة الله في ظروفنا بقدر معين من الامتعاض. ولكن لكي نقبل آلامنا ومآسينا بحق فإن ذلك يتدخل فيه عامل الإرادة. إن موقف القبول يقول إننا نثق بالرب أنه يحبنا ويعرف ما هو لخيرنا.» «القبول ليس معناه أن لا نصلي من أجل الشفاء أو من أجل ولادة طفل في حياتنا الزوجية، يجب أن نصلي حقاً من أجل هذه الأمور، ولكن يجب أن نصلي ونحن لدينا ثقة بالرب. يجب أن نعرف أن الله وإن كان يقدر أن يفعل كل الأشياء ولكن لحكمة لديه قد لا يفعل ما نصلي أن يفعله.»

«طالما أن النتيجة الكلية للتجربة في علم الغيب (مثلاً في حالات المرض) يجب أن نستمر في الصلاة، طالبين من الرب أن يغير الموقف، ولكن علينا أن نقدم هذه الصلاة بنفس الروح التي قدم بها يسوع صلاته – ليس كما أريد أنا بل كما تريد أنت. بالتأكيد لا يجب أن نطلب من الله حتماً أن يغير الموقف.»[10]

«يظن الكثيرون أن الألم استثناء في الحياة المسيحية، وعندما يتألم إنسان يتساءل: «لماذا أنا؟» مستشعراً أن الله قد تخلى عنه، أو ربما مستشعراً أن الله لا يمكن الاعتماد عليه كما يقولون. إلا أننا، في الحقيقة نحيا في عالم شرير. والحياة فيها الكثير من الألم والمعاناة، حتى للمؤمنين. لكن ما زال الله يضبط الكل. فهو يسمح للبعض الآخر منهم باجتياز الاضطهاد دون أن يموتوا. وبدل أن تسأل: “لماذا أنا؟”، من الأجدر والأفيد أن تسأل: “لماذا ليس أنا؟” إن الإيمان والعالم في صدام مستمر. فإذا توقع الإنسان الألم والمعاناة فإنه لن يصدم لو تألم.»

(التفسير التطبيقي – التعليق على “عب 11: 35-38”)

«علينا أن نتعلم كيف نفسر أسرار الحياة في ضوء معرفتنا لله (وليس العكس). وما لم يمكننا أن نرى أسوأ الحقائق وأكثرها قتامة فنتقبلها دون أن تتغير نظرتنا لصفات الله، فإننا لا نكون قد عرفناه بعد.»

إزوالد تشيمبرز

من كتابه الشهير: “أقصى ما عندي لمجد العلي” قراءات يومية: 29 يوليه

نقاط هامة

ª هناك لغز حدث بسبب السقوط جعل الإنسان لكي يحيا لا بد أن يموت، لذا فالحق الوحيد للإنسان هو الموت «إن لم نمت معه لا نملك معه» (رو 6: 8).

ª إن اختيار التمسك بالثقة بالله والإيمان به كرب وسيد على حياتي ومالك لها ينطوي على ترجمات عملية وقت الامتحان والتجربة والألم، أحد هذه الترجمات يعني أن أقبل الألم الذي لا أجد تفسير له، ولم أستطع تغييره بكل الطرق المشروعة. بالتأكيد، هذا لا يعني ما أسميه “الشيزوفرينيا المسيحية” والتي فيها أخدع نفسي بالقول “كل ما يُعمل يُعمل للخير” لكن قلبياً وربما خارجياً في حال تمرد وغضب. لا بد من الإقرار بالحقيقية لكي أعطي الله المجال ليعمل، فإن كنت في داخلي وقت الألم أشعر أن الله غير موجود، أو أنه لم ينصفني، فمن الأفضل أن أعترف بهذا بدلاً من الإنكار والخداع.

هناك فرق بين القبول والتعلم التدريجي وبين التضاد والتنافر الفكري؛ بمعنى أنني على مستوى الوعي أقر أن “كل ما يعمل يعمل للخير”، ولكن على مستوى اللاوعي هناك إنكار لذلك، بل هناك اعتقاد بأن ما يحدث معي ليس له شأن بالخير. لذلك فإني لا أصل إلى تغيير حياتي حقيقي وأنا أؤمن بالنقيض في المعتقدات الراسخة في عقلي الباطن، لأن الله خلق الإنسان وهو مضاد للتنافر الفكري أي بعدم قدرة على الإيمان بفكرتين متضادتين في نفس الوقت. فلا بد إذن أن يحدث صراع في الوعي بين الفكرتين المتضادتين حتى تغلب إحداهما الأخرى، ويتوحد إيماني. ولا بد لنا أن ندرك أن الله يتعامل معي على مستوى المعقدات الراسخة والأفكار المحورية الداخلية (وليست التي على السطح) حتى لو لم أكن على وعي بها.

ª “الشيزوفرينيا المسيحية” أمر يختلف عن مقولة كيركجارد بأن الإيمان مفارق Paradox مناف للعقل absurd، الإيمان يعني أننا نستطيع أن نثق ونؤمن بأن ما حدث لأيوب (أو لك أو لي) هو أفضل شيء من الممكن حدوثه (إن كنت من “الذين يحبون الله”)، وهذه هي منافاة العقل أو المنطق العقلاني. إن كنا لا نستطيع ذلك، فنحن في وضع لا يمكننا فيه أن نقول إن الله ضابط الكل، فإما أنه ليس كلي الصلاح أو ليس كلي القدرة، كما شرحنا سابقاً. وهذا منافاة للإيمان!

ª عندما ننجح في امتحان الألم ونصل إلى التسليم والقبول رغم استمرار الألم، تأتي التعزية التي تجلب السكينة والسلام ومن ثم يمتلأ القلب بالشكر. السكنية لا تنفي وجود الألم لكنها تعنى حدث تحول وتغيير في شكل الألم والإحساس به.

ª إن موقف الله من ألمي يشابه، والقياس مع الفارق، ألم الأم التي تحرم طفلها من شيء ما أو تعاقبه لتقويم شخصيته، وهي تراه يتألم ويبكي بحرقة لكنها تتحمل ليس فقط ألمه، بل بالأكثر ألمها لألمه ولإيلامها له، لأنه تحبه. الطفل يتألم بشدة لأن أمه تفعل شيء ضده تماماً كما نرى نحن الله وهن يتعامل مع أيوب أو يوسف أو داود وأيضاً أثناء اجتيازنا في ألمنا الخاص. ولكن الأم أيضاً تتألم معه. لعل هذا يجيب على التساؤل بهل الله يتألم في ألمي!

تطبيق عملي

– ماذا تفعل عندما تتألم؟ (الهروب، الكبت، الإنكار)؟

– حدد وسائل الهروب التي تستخدمها؟

– ماذا سوف تفعل في المرة القادمة عندما تتألم؟

(اكتب ستة اقتراحات عملية سوف تقوم بها عندئذ لتغيير طريقتك في التعامل مع الألم)

– حدد شكل/ أشكال الألم في حياتك الذي لا يمكن تغييره حالياً ومضطر أن تقبله؟

(هل تستطيع قبول هذا الألم من الله شاكراً حتى وإن لم تفهم مقاصده بعد؟)

 

[1] كالفن، جون، “تأملات ذهنية في الحياة الروحية”. ترجمة: سوليم سيدهم. درا الثقافة 1997.

[2] “تفسير رسالة العبرانيين”. سلسلة تفسير جون ويسلي للعهد الجديد. تعريب: “د. عزت زكي” مكتبة النيل المسيحية، القاهرة 1986.

[3] مقتبس في: د. إبراهيم، إبراهيم مصطفي، “الفلسفة الحديثة من ديكارت إلى هيوم”. دار الوفاء للنشر والتوزيع. الإسكندرية، مصر 2000.

[4] بريدجز، جيري “الثقة بالرب في مواجهة آلام الحياة”. ترجمة نعيم عشم. لجنة خلاص النفوس للنشر. الكتاب السنوي رقم 42. القاهرة 2002.

[5] كارام، د ولي ج. “تحويل اللعنة إلى بركة – شرح لسفر أيوب” الناشر العربي بي. تي دبليو، القاهرة 2005.

[6] بريدجز، جيري. “الثقة بالرب في مواجهة آلام الحياة.” نشر لجنة خلاص النفوس للنشر (الكتاب السنوي رقم 42، عام 2002).

[7] طومسون، ج. أ. “التفسير الحديث للكتاب المقدس (تندال) سفر التثنية” ترجمة: ق. جاد المنفلوطي – دار الثقافة القاهرة 1994.

[8] شيفر، فرانسيس. “الالتقاء بالله” لوجوس. القاهرة 2001.

[9] أحياناً كثيرة يستخدم الكُتاب في اللغة الإنجليزية لفظة “الخضوع” بمعنى “الخنوع/ الرضوخ” كما هو الحال هنا. والحق أن عدم الحسم بين المعنيين موجود فعلياً في الواقع، وفلسفياً في الثقافات المختلفة للبشر.

[10] بريدجز، جيري. “الثقة بالرب في مواجهة آلام الحياة” ترجمة: نعيم عشم. لجنة خلاص النفوس للنشر، الكتاب السنوي رقم 42. القاهرة 2002.