أبحاث

الانتصار على سيحون – العظة الثالثة عشر من عظات أوريجانوس على سفر العدد

الانتصار على سيحون - العظة الثالثة عشر من عظات أوريجانوس على سفر العدد

الانتصار على سيحون – العظة الثالثة عشر من عظات أوريجانوس على سفر العدد

الانتصار على سيحون - العظة الثالثة عشر من عظات أوريجانوس على سفر العدد
الانتصار على سيحون – العظة الثالثة عشر من عظات أوريجانوس على سفر العدد

الانتصار على سيحون ”تابع”

الانتصار على باشان ـ حادثة بلعام

سيحون:

هزيمة الشيطان أمام كلمة الله

 1ـ قد سبق أن قلنا كيف إن ملك الأموريين سيحون، هذا المتكبر هذه الشجرة العقيمة، شرع في القتال ضد إسرائيل وهُزِمَ، يقول الكتاب المقدس حرفيًا بأنه ” قد ضربة للموت بالسيف” (عد21: 24)، أو بحسب صورة أخرى “بحد السيف”. إذا أردنا أن نعرف بكل دقة أي سيف ضرب هذه الشخصية العقيمة والمتكبرة “أرز لبنان”، فلنتعلم ذلك من بولس الرسول الذي يقول لنا “ كلمة الله حية وفعالة وأمضى من كل سيف ذي حدين” (عب 4: 12)، وفي نص آخر ” سيف الروح الذي هو كلمة الله” (أف6: 17). أنه الموت الصادر من هذا السيف الذي ضرب سيحون الروحي أي الشيطان.

الفتوحات الروحية:

وأبناء إسرائيل ملكوا على كل أرضه” (عد21: 24)، كل هذه البقعة الأرضية كانت تدعي بلد سيحون لكن المسيح وكنيسته ملكًا على كل كورة سيحون “وملكوا من أرنون إلى يبوق“. أرنون ويبوق كانتا مدينتين في مملكة سيحون التي كانت تبدأ من أرنون وتنتهي في يبوق. لهذا السبب قيل إنهم ملكوا إلى يبوق. أرنون تعني لعناتهم أي أن مملكة سيحون المتكبرة والعقيمة تبدأ باللعنات.

والنهاية في يبوق التي تعني صراع. كل من يريد أن يخرج من مملكة الشيطان ويهرب منها سيجد الصراع، خدامه وأعوانه سيشعلون الحروب ضده. فإذا حارب وانتصر ستكف يبوق عن أن تكون مدينة لسيحون بل ستصبح مدينة لإسرائيل. هذا ما قرأناه عن البطريرك يعقوب ” عندما أتي إلى مكان ما كان يصارعه إنسان لم يقدر عليه، وكان متمسكًا جيدًا وكان قويًا مع الله فأخذ اسم إسرائيل” (تك32: 24ـ28).

فأخذ إسرائيل كل هذه المدن وأقام إسرائيل في جميع مدن الأموريين” (عد21: 25). إنه إسرائيل الجديد بحسب المسيح، ليس إسرائيل بحسب الجسد، ولا ” اليهودي في الظاهر” (رو2: 28)، الذي يسكن كل مدن الأموريين عندما تنتشر كنائس المسيح في المسكونة.

كل واحد منا كان أولاً أيضًا، مدينة للملك سيحون، الملك المتكبر كان يملك علينا الجنون والكبرياء والكفر وكل ما ينبع من إبليس، لكن عندما يربط القوي ويُهْزم، عندما تكون “أمتعته قد نهبت” نصبح نحن مدن إسرائيل وميراث القديسين، بشرط أن يكون السلطان الذي كان متسلطًا علينا قد هُزم تمامًا أولا،ً وقطعت هذه “الشجرة العقيمة”، هزم هذا “الملك المتكبر” وأصبحنا رعية الملك الذي يقول “ تعلموا مني لأني وديع ومتواضع القلب” (مت11: 29).

          ويعطي الكتاب المقدس بعد ذلك تفاصيل عن مدن الملك العقيم المتشامخ سيحون يقول الكتاب “وفي كل تخومها” لماذا تدعي عاصمة ملك سيحون حشبون؟ حشبون تعني الأفكار وفي هذه الأفكار يكمن الجانب الأعظم من مملكة الشيطان وأساس قدرته، وقال المسيح

“لأنه من الداخل من قلوب الناس تخرج الأفكار الشريرة، زنى، فسق، قتل، سرقة، طمع، خبث، مكر، عهارة، عين شريرة، تجديف، كبرياء، جهل، وجميع هذه الشرور تخرج من الداخل وتنجس الإنسان” (مر7: 21ـ23). لذلك لابد أن يضرم النار في هذه المدينة وتحرق، بأي نار؟ بكل تأكيد النار التي يقول عنها المخلص “جئت لألقي نارًا على الأرض فماذا أريد لو اضطرمت” (لو12: 49).

نبوة على حشبون

          2 ـ ثم بعد ذلك يقال عن هذه المدينة ” لذلك يقول أصحاب الأمثال إئتوا إلى حشبون فتبني وتصلح مدينة سيحون لأن نارًا خرجت من حشبون لهيبًا من قرية سيحون أكلت عار موآب” (عد21: 27، 28). سيحون سبق أن قلنا إنه الملك الذي كان يملك على مدينة حشبون. يجب أن تفهم باقي الأفكار كالآتي، هؤلاء أصحاب الأمثال يقولون إئتوا حتى نبني ونصلح حشبون التي هي مدينة سيحون.

أصحاب الأمثال:

الشريعة والأنبياء:

          فلنبحث الآن من هم “أصحاب الأمثال” ما يدعي مثالاً هو الحديث الاستعارى. إذًا الذين يدعون أصحاب الأمثال. هم يتحدثون بالاستعارة، ولكن من الذي تحدث بالأمثال، أليس هو الناموس والأنبياء؟ اسمع إذًا كيف يعبر داود النبي “أفتح بمثل فمي أذيع ألغازًا منذ القدم” (مز78: 2).

إشعياء كاتب آخر بالألغاز يعلن هو أيضًا “وصارت لكم رؤيا الكل مثل كلام السفر المختوم الذي يدفعونه لعارف الكتابة قائلين اقرأ هذا فيقول لا أستطيع لأنه مختوم. أو يدفع الكتاب لمن لا يعرف الكتابة ويقال له اقرأ هذا فيقول لا أعرف الكتابة” (إش29: 11، 12). أنه مختوم لأنه مملوء بالأمثال ومغلف بالألغاز.

إعادة البناء على الخراب:

          هؤلاء أصحاب الأمثال يقولون ” ائتوا إلى حشبون فتبني” (عد21: 27). حشبون الأولى قد سقطت، ماذا أقول؟ إنها ضربت واحترقت، يجب أن تبني مرة أخرى، تبني حشبون أخرى، كيف سيكون هذا؟ فلنوضح هذا بمثال: إن رأيت وثنيًا يعيش في العار والضلال الديني فستقول عنه بدون تردد أنه مدينة حشبون في مملكة سيحون، حيث يتسلط الملك العقيم والمتكبر على أفكاره، فإن اقترب هذا الرجل من إسرائيل، بمعنى من ابن للكنيسة.

إذا ألقى مطارد كلام الله، وسحب ضده “سيف الروح” (أف 6: 16)، يخرب فيه كل المتاريس، التي هي عقائد الوثنيين ويحرق كبرياء أفكاره في نار الحق. يجب أن نقول عنه إنه مدينة الملك سيحون، حشبون التي دمرت. ولكن لا تترك صحراء مهجورة، كالإنسان الذي أقلعت عنه عقائد الوثنيين. فإنها ليست قاعدة في بني إسرائيل أن تترك المدن التي دمرت في خراب.

فعندما يسقطون ويدمرون الأفكار السيئة والمشاعر الغير صالحة في الإنسان ويبنون في قلبه الأفكار الحسنة والشعور بالتقوى ويضعون فيه مبادئ الحق ويعلمونه الطقوس الدينية، ومبادئ الحياة، ويبنون له العادات بحسب الشريعة وطرق مراعاتها، حينئذ حقًا سيقول أصحاب الأمثال الواحد للآخر ” ائتوا إلى حشبون فتبني التي هي مدينة سيحون” (عد21: 27).

أبناء الكنيسة قد دعوا هم أيضًا أصحاب الأمثال، لأنهم يفهمون بالروح رموز الشريعة والألغاز هذا ما يقصده أرميا النبي في حديث رمزي أيضًا عندما قال له السيد الرب “ها قد جعلت كلامي في فمك أنظر قد وكلتك هذا اليوم على الشعوب وعلى الممالك لتقلع وتهدم وتنقض وتبني وتغرس” (إش1: 9، 10). ماذا يقلع وماذا يهدم؟ مدينة حشبون التي كان يملكها ملك سيحون. ماذا يقلع وماذا يهدم فيها؟ أفكار الكفر والنجاسة، ماذا يبني فيها مرة أخرى ويغرس؟ أفكار التقوى والعفاف. حشبون يجب أن تكف عن أن تكون مدينة الأموريين لتصبح مدينة أبناء إسرائيل.

باشان العار

          3 ـ لكن إذا أردنا أن نتعمق أكثر، فليس لدينا الوقت الكافي لشرح ما سبق أن قُرئ عن بلعام. إن صعوبة هذه النقطة تظل باقية إلى أن نتمكن من الأمر ونعرض سير القصة. فنحن نقابل صعوبة عند شرح المعاني الروحية. لأن أول وجه للحرف مغلف بصعوبة هذا مقدارها ولكن بما أن رغبتنا تدفعنا لكي نشرح النقط الأكثر ظلامًا فلا يجب أن ننسى كلية التاريخ الذي يساعدنا للوصول إلى المعنى.

بعد أن تسلط بنو إسرائيل على مدن الأموريين ” تحولوا أو صعدوا في طريق باشان” (عد21: 33ـ 35)، لكن لم يتنازلوا أو لم يرسلوا له سفراء ولم يطلبوا منه المرور في أرضه، لقد شرعوا في الحال في المعركة معه وهزموه هو وبنيه إذًا فلنر ما هي باشان. باشان تعني العار، أنهم إذًا لم يرسلوا سفراء لهؤلاء القوم ولم يطلب المرور في أرضه.

حيث لا يجب أن يكون لنا أي ممر أو أي طريق يوصلنا إلى العار، يجب من الآن أن نهاجمها ونحترس منها في كل الحالات. من ناحية أخرى عوج الذي هو اسم ملك باشان، يعني مانع وهو يمكن أن يمثل الخليقة الجسدانية والمادية التي أحبها والرغبة فيما يمنع النفس كعائق ويبعدها عن الله. الحرب ضد عوج يجب أن تشهر بطريقة لم يسبق لها مثيل. يقول الكتاب المقدس “أي كائن حي” (عد21: 35)، بما في ذلك أي من أبناء إسرائيل لا يجب أن يترك لكي يعيش في مملكة العار والخزي لكن يجب أن تقطع قوة إسرائيل ويلغي العار وتبني في النفس مرة أخرى كل صور التقوى، فيزرع فيها جذور الأمانة والدين.

في مملكة حشبون لم يكتب بأن أي كائن حي لا يجب أن يعيش. وكذلك في مملكة موآب ربما يكون لنا الحاجة إلى البعض من سكانها. ربما يكون البعض لازمًا لكفافنا ولتدريبنا في هذه الحياة ” وإلا فيلزمكم أن تخرجوا من العالم” (1كو5: 10). لكن من باشان بمعنى من العار، ليس لدينا أي حاجة إليها، لا نترك أي شئ ليعيش يجب إزالة كل شئ، إزالة كل أعمال العار، لأنه لا يمكن أن يكون العار صالحًا عند أي شخص.

بلعام

          4 ـ “وارتحل بنو إسرائيل ونزلوا في عربات موآب من عبر أردن أريحا، ولما رأي بالاق بن صفور…. الخ” (عد22: 1، 2). كل ما يتعلق ببلعام وأتانه هي قصة مليئة بالصعاب. لكن المعنى الداخلي به صعوبة أكثر وأني لا أدري إن كان من السهل شرح المعنى التاريخي كذلك، وبفضل الله سنلخص التفسيرات التي نستطيع أن نعطيها.

غرابة القصة

          الحرب تهدد ملك بالاق بن صفور من بني إسرائيل الذي كان عددهم حوالي “ستة مئة ألف رجل” (عد26: 51)، مسلحين سوف يتسلطون على أرضه. فيجب عليه أن يجهز سلاحه، ويجمع جيشه وأن يفكر في محاربتهم حتى يستطيع أن يتقدم إلى الأمام بقوة متماسكة ضد عدو مازال بعيدًا ” فأرسل رسلاً إلى بلعام بن بعور” (عد22: 5، 6)، وقال له سوف يكرمه إكرامًا عظيمًا ووعده بهدايا كثيرة.

ووضع كل أمله في مجئ بلعام وفي الكلمات التي سينطقها وفي اللعنات التي سيرسلها كالسهام. أنه يحاول أن ينتصر بكلام بلعام على الشعب الذي لم يتمكن الجيش الملوكي بأن يكون له الغلبة عليه.

ما الذي تقدمه هذه القصة؟ أنه لسلوك غريب؟ أين ومتى شوهد هذا؟ من هو الملك الذي أمام معركة أكيدة، ينسى الحرب ويتجاهل جيشه لكي يلجأ إلى خدمات عراف أو ساحر. لذلك يجب علينا أن نطلب من الله النعمة لكي لا نتبع أبدًا هنا خرافات يهودية، وأن نشرح هذا بمعنى موافق للعقل ولائق بالشريعة الإلهية.

قدرة الصيغ السحرية

          أولاً يجب أن نقر أنه في بعض الحالات تكون الصيغ أكثر فاعلية وقدرة من المادة، فما لا يستطيع أن يعمله جيش لأمم كثيرة جدًا، ما لا يستطيع أن يحصل عليه الجيش بالحديد وبالسلاح، يصل إليه بالصيغ، لا أقول بالصيغ المقدسة أو بكلام الله لكن ببعض مراسيم محفوظة عند الإنسان. لا أعرف كيف تدعى وهي مرتبة بحسب فن باطل.

سِمّها كما تريد. الواقع يوجد كما قلت نتائج يستطيع الإنسان أن يحصل عليها بالصيغ، هذه النتائج يستحيل على الإنسان أن يحصل عليها بالطبيعة بمجهودات جسدية مهما كانت كبيرة. فلنأخذ مثلاً. كان في مصر رقاة وسحرة، من هو الإنسان الذي يمكنه بواسطة القوة الجسدية وحدها أن يغير العصا إلى ثعبان؟ لكن الرقاة والسحرة المصريين غيروها. موسى غيرها أولاً لكن ملك مصر كان يعلم بأن هذا ممكن حدوثه بواسطة فن كلمة بشرية يستخدم الصيغ.

وقد اعتقد أن موسى هو أيضًا قد عمل هذه المعجزات بواسطة عملية سحرية وليس بواسطة القدرة الإلهية، واعتقد بأنه يتظاهر بأن ينسب للقدرة الإلهية عملاً كله بشري. فقد جمع حالاً رقاه وسحرة مصر. لقد حدثت مباراة بين الذي يعمل المعجزات بقدرة الله والذين يستعينون بالشياطين. القدرة المضادة تحول العصا إلى ثعبان مثلما فعلت قدرة الله.

لكن الثعابين التي عملت بقدرة الله ابتلعت وافترست كل الثعابين الخارجة من العصا بتحويل السحر. قدرة الشيطان لم تتمكن من إعادة الكائن الحسن الذي سبق أن حولته إلى كائن ردئ. أنها استطاعت أن تحول عصا إلى ثعبان. ولكن لم تستطع إعادة الثعبان إلى عصا. لهذا السبب فقد هلكت كلها بالعصا المحولة إلى ثعبان بقدرة الله. بعد ذلك أعيدت بقدرة الله إلى أصلها معترفة برب الكون.

الرقاة المصريون توصلوا أيضًا إلى تغيير الماء إلى دم. لكنهم لم يستطيعوا مرة أخرى أن يحولوا الدم إلى ماء. وبالعكس فإن قدرة الله غيرت إلى دم ليس الماء فحسب، لكن النهر كله، وبصلوات موسى أعادت المياه إلى حالتها الصافية الطبيعية. السحرة المصريون اخرجوا أيضًا البعوض. لكنهم لم يتمكنوا من طرده. موسى أخرج بعوضًا وأعاده إلى أصله لأن إلهنا يؤلّم ويجدد.

القدرة المضادة تستطيع أن تعمل الشر لكنها لا تستطيع أن تعيد الأشياء لحالتها الأولى. لقد بدأنا بعرض هذه المبادئ لكي نفهم أعمال بلعام أي كلماته. يوجد فعلاً أنواع مختلفة من السحرة تتفاوت قدرتهم. بلعام هذا كان مشهورًا في فنه السحري، وليس له مثال في سحره المؤذي ليس في فنه صيغ البركة بل صيغ اللعنة، حيث يدعو الشياطين ليلعن وليس ليبارك. لهذا السبب كان يعتبر عند كل أصحاب الشريعة ساحرًا قديرًا.

 فلو أن الملك لم يلاحظ فعلاً قبل ذلك بأن كثيرًا من الجيوش هُزمت بواسطة لعناته، لما كان يأمل بأن يصل باللعنات إلى نتيجة كان سيصل إليها بصعوبة بالحديد والسلاح. إنه على هذا اليقين وهذه الخبرة المتكررة كثيرًا، ترك بالاق كل الوسائل وطرق الحرب لكي يرسل رسلاً ليقول له “هوذا الشعب قد خرج من مصر هوذا قد غشى وجه الأرض وهو مقيم مقابلي” (عد 22: 5).

بالاق يريد أن يهزم إسرائيل بأسلحة روحية

لكن الملك كان في رأيي مندفعًا بسبب أكثر وجاهة وأنه قد عرف كما يبدو لي أن أبناء إسرائيل يحصلون عمومًا على النصر على أعدائهم بواسطة الصلاة وليس بواسطة الأسلحة، وبواسطة التضرعات أكثر من الحديد. إسرائيل لم يأخذ أبدًا أسلحة ضد فرعون لكن قيل له      “ الرب يقاتل عنكم وأنتم تصمتون” (خر14:14).

في المعركة ضد العمالقة لم تكن أيضًا قوة الأسلحة فعالة مثلما كانت صلوات موسى “وكان إذا رفع موسى يده” (خر17: 11)، نحو الله كان عماليق ينهزم، لكن عندما كان يرخي يديه كانت الهزيمة تأتي لإسرائيل. بالاق ملك موآب قد سبق، بكل تأكيد أن سمع عن ذلك حيث إنه كُتِبَ “يسمع الشعوب فيرتعدون تأخذ الرعدة سكان فلسطين حينئذ يندهش أمراء أدوم، أقوياء موآب تأخذهم الرجفة يذوب جميع سكان كنعان” (خر 15: 14، 15). نرى إذًا أن الصوت قد وصل إليهم، كما تنبأ موسى من قبل في نشيده عند عبور البحر الأحمر.

ملك موآب إذًا قد تعلم أن الشعب ينتصر بالصلوات ويحارب خصومه بالفم، وليس بالسيف. إنه فكر في ذلك وقال في نفسه بما أن الأسلحة لا تستطيع أن تقاوم صلوات وتضرعات هذا الشعب، على أن أجد تضرعات وأسلحة شفاهية وصلوات يمكنها أن تتغلب عليهم. هذه كانت تأملات الملك، وسنبين بالبرهان من كلمات الكتاب المقدس التي شرحها لي معلم من أصل عبراني[1]، حصل على الإيمان، أنه مكتوب ” فقال موآب لشيوخ مديان: الآن يلحس الجمهور كل ما حولنا كما يلمس الثور خضرة الحقل” (عد22: 4).

وهذا المعلم من أصل عبراني، وكان يقول: لماذا هذه المقارنة لثور يلحس خضرة الحقل؟ بدون أي شك لأن الثور ينزع خضرة الحقل ويستخدم لسانه مثل منجل لكي يقطع كل ما يجده، كذلك الشعب مثل الثور يحارب بالفم وبالشفاه، أسلحته هي كلماته وصلواته. ولما علم الملك بذلك أرسل رسلاً إلى بلعام لكي يواجه الكلمات بكلمات والصلوات بصلوات.

السحر

          فلا نندهش إذا كان السحر يقدم حيلاً من هذا النوع، فوجوده ثابت في الكتاب المقدس ولو أن ممارسته كانت ممنوعة. الشياطين أيضًا موجودة لكن الكتاب المقدس يمنع أن نكرمهم وأن نلجأ إليهم. أنه يمنع أن نمارس السحر لأن عملاء السحرة هم الملائكة المعاندين، الأرواح الماكرة والشياطين النجسة. إن الأرواح المقدسة لا تطيع السحرة.

الساحر لا يستطيع أن يستعين بميخائيل وروفائيل، وجبرائيل، ولسبب أكثر قوة لا يستطيع أن يستعين بالله القدير، ولا بابنه ربنا يسوع المسيح، ولا بروحه القدوس. نحن فقط حصلنا على قدرة الاستعانة بالله الآب. نحن فقط حصلنا على قدرة الاستعانة بابنه الوحيد يسوع المسيح. لكن أقول أيضًا الذي حصل على قدرة الاستعانة بالمسيح لا يستطيع أن يعود مرة أخرى إلى الاستعانة بالشياطين، والذي له نصيب في الروح القدس لا يجب أبدًا أن يستدعي الأرواح النجسة. إذا قصد الأرواح النجسة فإن الروح القدس يهرب منه.

إن السحرة هم الذين يستعينون ببعلزبول. الشعب اليهودي كان يعلم هذا ولهذا السبب، وجه هذه النميمة، وهذا الكذب ضد سيدي يسوع: “ أنه ببعلزبول رئيس الشياطين يخرج الشياطين” (لو11: 15؛ مر12: 24). المخلص يعلم أن بعلزبول هو حقًا رئيس الشياطين، أنه لم يتهمهم بالكذب على هذه النقطة، لكن أجابهم: “ فإن كنت أنا ببعلزبول أخرج الشياطين فأبناؤكم بمن يخرجون؟” (لو11: 19؛ مر12: 27).

إذًا توجد شياطين شريرة والسحرة يستعينون بهم وهي تساعدهم على الشر وليس على الخير. إنهم مستعدون للضرر ولا يعرفون أن يعملوا الخير. إن هؤلاء الشياطين هم الذين بواسطة فن معين وبعض الصيغ دخلوا في نوع من العهد مع بلعام، وعلى هذا الأساس كان يبدو عظيمًا في أعين الآخرين.

          لهذا السبب أرسل الملك مسرعًا رسلاً نحوه وقال له ” فالآن تعال وألعن لي هذا الشعب لأنه أعظم مني لعله يمكننا أن نكسره فاطرده من الأرض؟” (عد22: 6). هذا الملك لا يبدو لي أنه كان له ثقة كاملة في قدرة بلعام، أنه كما اعتقد كان مرتعدًا من شهرة المعجزات التي حدثت لصالح شعب الله. لهذا السبب قال إن لعنات بلعام ربما تضرب البعض منهم، وتهزم الآخرين وتطردهم من أرضه.

السحر لا يقدر أن يعطي البركة

          إنه يضيف بعد ذلك: ” لأني عرفت أن الذي تباركه مبارك والذي تلعنه ملعون” (عد22: 6)، اعتقد أن الملك لا يعرف، أن كان كل الذين قد باركهم بلعام صاروا مباركين. يبدو لي أنه يقول هذا لكي يجامله ولكي يلاطفه أكثر لصالح مقاصده بتفخيم وتعظيم فنه. السحر لا يعرف أن يبارك لأن الشياطين لا تعرف أن تفعل الخير. إسحق ويعقوب يعرفان أن يباركا، وكل القديسين كذلك أما كل غير تقي فلا يعرف أن يبارك.

حلوان العرافة

          الرسل وصلوا أخيرًا عند بلعام: ” فانطلق شيوخ موآب وشيوخ مديان وحلوان العرافة في أيديهم” (عد22: 7). فن العرافة هذا ناشئ من براعة الإنسان، توجد أشياء يلقبها الكتاب المقدس بحلوان العرافة وتقاليد الوثنيين تدعوها مشاجب، مراحل أو يعطوها أسماء أخرى مشابهة: إنها كمكرسة لهذه الخدمة، يستعملها الوثنيون في العرافة.

الكتاب المقدس يذكر أن للأنبياء أداة تسمى “أفود” في اللغة الأصلية: أنه ملبس للذي يتنبأون لكن في الكتب الإلهية النبوة شئ، والعرافة شئ آخر. الكتاب المقدس يقول حقًا “ إنه ليس عيافة على يعقوب ولا عرافة على إسرائيل في الوقت يقال عن يعقوب وعن إسرائيل ما فعل الله” (عد23: 23). العرافة إذًا مرفوضة تمامًا، إنها تمارس كما قلنا بعمل ووساطة الشياطين.

حضور الله

          إذًا بلعام يأخذ حلوان العرافة، فمن العادة أن الشياطين تأتي إليه لكن بالعكس يرى أن الشياطين تهرب منه والله يحضر، لهذا السبب يقول إنه يسِأل الله حيث إنه لم يعد يرى بالمرة تلك الشياطين التي كانت عادة تطيعه. الله إذًا أتى بنفسه ليتقابل مع بلعام، ليس لأنه كان مستحقًا لزيارته، لكن لكي تهرب الأرواح التي كانت من عادتها أنت تحضر لكي تجلب اللعنة وأذى السحر.

الله فعلاً كان ساهرًا على شعبه منذ هذه اللحظة، فأتى الله إذًا قائلاً: ” من هم هؤلاء الرجال الذين عندك. فقال بلعام لله: بالاق بن صفور ملك موآب قد أرسل إلىَّ يقول هوذا الشعب الخارج من مصر قد غشى وجه الأرض تعال الآن ألعن لي إياه لعلي أقدر أن أحاربه وأطرده، فقال الله لبلعام لا تذهب معهم ولا تلعن الشعب لأنه مبارك” (عد 22: 9ـ 12).

اعتراض

          7 ـ هنا يعرض سؤال من رتبة أعلى ولا أعرف إذا كان من الملائم أن نكشف عن غرض سر عميق هكذا، وأن نقدم لأناس لا يأتون لسماع كلمة الله إلا نادرًا، ويذهبون بعد ذلك بدون أن يعطوا أنفسهم فرصة أكبر للتأمل.

ولكن سنقول بعض الكلمات للذين يهتمون بذلك ولهم عطش للتعليم، الذين يستطيعون إدراك المعنى الروحي، يمكن عمل اعتراض مثل هذا: يستعين بلعام بالشياطين، إنه يلعن الشعب، أن تهلك الشياطين وتفسد بحسب قدرتها فليكن لكن هل الله لا يستطيع أن يحفظ الشعب من الشياطين ويبطل قوتهم الشريرة؟

          هل كان من الضروري إن يأتي هو بنفسه ويقابل بلعام ويمنع الشياطين التي اعتادت أن تقترب لكي تجرب شعبه وتسعى لكي تؤذيه؟

الحرية المتروكة من الله للشياطين، تعمل الخير

سنقدم هذا الجواب الجزئي على هذا الاعتراض ومع أنه لا يجب علينا أن نقول كل ما يتعلق به: الله لا يريد أن يقضى على جنس الشياطين قبل الوقت. الشياطين أنفسهم يعلمون بأن وقتهم محدود في هذا الدهر لهذا السبب كانوا يطلبون من السيد الرب “ أن لا يعذبهم قبل الوقت” (مت8: 29)، ” وبأن لا يرسلهم إلى الهاوية” (لو8: 31).

إنه لم يسحب من الشيطان لقبه أي رئيس هذا العالم. لأن عمله مازال ضروريًا لإصلاح الذين يجب أن يكللوا، لأنه مازال لازمًا للصراع الذي يعانيه الطوباويون وللنصرة التي يفوزون بها. أيضًا بالنسبة للشياطين الآخرين فهو لا يريد أن ينزع منهم دورهم في الخطة التي وضعها قبل مجئ الوقت، لذلك منذ البداية لم يسمح أن يستعين بلعام بهم، خوفًا من أنه بعد أن يستعين بهم يهلكون قبل الوقت ويبادون في المعركة التي سيقوم بها الله لصالح شعبه.

على أنه يمكن أن يحصل الشيطان من الله على إنسان ليجربه مثل أيوب ويكون له القدرة عليه إلى حد ما، أن يقول الله له مثلاً: ” هوذا كل ماله في يديك وإنما إليه لا تمد يدك” (أيوب2: 6). هذا شئ، ولكنه شئ آخر مختلف كل الاختلاف أن تكون نتيجة فعل أحد السحرة أن ينزع منهم بالتضرعات أعمالهم الشريرة بدون أي قيد.

          وفي هذه الحالة الأخيرة لو كانت الحرية متروكة لهم لكانوا أبادوا شعب الله. وبالعكس لو رفعت منهم حرية التصرف لكان هذا قضاء على خليقة عاقلة، وتقديم وقت الدينونة، ويكون هناك إضرار بالذين كان في استطاعتهم أن يحصلوا على الإكليل بصراعهم ضدهم. فلو كان الشياطين محرومين من حرية التصرف، لما كان هناك أعداء لإبطال المسيح، وبدون أعداء لا تكون هناك أية معركة، وبدون معركة لا تكون هناك أية مكافئة، ولا نصرة.

الله يعمل إذًا بطريقة خاصة حتى أن الشعب الذي مازال عديم الخبرة[2] والذي خرج لتوه من عبادة الشياطين، لا يقع في حبائلهم. الله يسمح أن تحصل تضرعات الساحر على جواب وأن لا يحرم جنس الشياطين من حرية الإرادة. لهذا السبب الله يتقدم أولاً ويمنع بلعام من أن يذهب إلى الموضع ومن أن يستدعي الشياطين للنطق بلعناته، لو أنه كان قد ترك لرغبته.

ولكن بما أنه أصر على حبه للمال، فإن الله يحترم حريته ويرجع عن قراره ويتركه يذهب. ولكنه يضع كلامه في فم الساحر، ويمنع أن تلفظ لعنات الشياطين، لتحل محلها البركات ويعمل أن يلفظ بلعام، بدلاً من اللعنات، بركات ونبوات تستطيع أن تبني روحيًا، ليس فقط إسرائيل، بل أيضًا كل الأمم.

بلعام سلف للمجوس

          فالواقع إذا أدخلت نبوات بلعام بواسطة موسى في الكتب المقدسة ولسبب أكثر قوة جمعها سكان Mesopotamie (بلاد ما بين النهرين)، حيث كان لبلعام شهرة كبيرة وكانوا معروفين كتلاميذه في السحر.

          وإليه ترجع التقاليد في بلاد الشرق أصل المجوس الذين كانت عندهم نص جميع نبوات بلعام ومن ضمنها “ يبرز كوكب من يعقوب ويقوم قضيب من إسرائيل” (عد 24: 17). كان لدي المجوس هذا النص، لذلك عندما ولد يسوع، عرفوا النجم وفهموا بأن النبوة قد تحققت، فهم أفضل من الشعب الإسرائيلي الذي أهمل الاستماع إلى كلمات الأنبياء والقديسين[3].

وهم أدركوا بحسب المخطوطات الوحيدة التي تركها بلعام أن الوقت قد أتى، فأسرعوا يبحثون عنه ليسجدوا له ويظهروا عظم إيمانهم بإكرامهم الطفل الصغير كملك.

بقية القصة

لكن لنرجع إلى موضوعنا بلعام يزعج الله وينتزع منه تصريحًا بأن يذهب ليلعن أبناء إسرائيل وبأن يستعين بالشياطين، وهو الذي سبق أن جاء إليه الله، وهو راكب على أتانه، وأمامه يحضر الملاك الحارس لإسرائيل الذي قال عنه السيد الرب لموسى “هوذا ملاكي يسير أمامك” (خر32: 34)، أنه يطلب أن يمر فيسمح له. وتسئ أتانه معاملته في الطريق لكن الساحر يرى الشياطين ولا يرى الملاك:     “ فأبصرت الأتان ملاك الرب” (عد 22: 23).

          هي لم تكن مستحقة أن تراه ولم تكن مستحقة أن تتكلم لكن كان يجب أن يخذل بلعام، مثلما قيل في بعض أجزاء الكتاب المقدس أن “حمار أعجم، ناطقًا بصوت إنسان، مشتكيًا من حماقة النبي” (2بط 2: 16).

الأتان رمز الكنيسة

          بعد أن تكلمنا كثيرًا في القصة ننتهي ببعض الاختصارات من التعليم على المعنى الرمزي. إذا رأينا أن قدرة العدو هي التي تحارب شعب الله، نفهم من هو الجالس على الأتان. إذا اعتبرنا كيف أن الإنسان يجتذب بواسطة الشياطين، نفهم من هو الأتان. ونفهم كذلك من الإنجيل أن المسيح أرسل تلميذيه قائلاً “تجدان أتانًا مربوطًا وجحشًا معها فحلاهما وإتياني بهما حتى أركب على ظهره” (مت21: 2؛ مز11: 2).

هذه الأتان بمعنى الكنيسة، كانت حاملة أولاً بلعام والآن تحمل المسيح وأنها حُلتّ بواسطة التلاميذ وحررت من الرباطات التي كانت مربوطة بها لأجل ابن الله الذي صعد عليها، والذي دخل معها في ” المدينة المقدسة أورشليم السماوية” (عد12: 22)، وأنه قد تمم ما هو مكتوب في الكتاب المقدس الذي يقول:

ابتهجي جدًا يا ابنة صهيون اهتفي يا بنت أورشليم هوذا ملكك يأتي إليك هو عادل منصور وديع وراكب على حمار وعلى جحش ابن أتان” (زكريا9: 9)، الدابة تعني أتان. هي ترمز بدون أي شك إلى المؤمنين آنذاك أي اليهود، والأتان الجديد هم الذين ” آمنوا من الأمم ويعترفون بالمسيح” (أع21: 25)، يسوع ربنا الذي له المجد والسلطان إلى أبد الآبدين آمين.

[1] يشير أوريجينوس كثيرًا إلى هذا المعلم العبراني ورغم أننا لا نعرف كثيرًا عن هذا المعلم إلا أننا نستفيد أن معلمي الكنيسة كانوا بدورهم يسعون وراء المعرفة ويحصلون عليها من المتخصصين فيها.

[2] نجد هنا نقطة هامة أسسها إيرينيوس وأستعملها دائمًا آباء الإسكندرية وهي أن الله يتبع طريقة تربوية تدريجية في تعليم الشعب.

[3] نلاحظ أن أوريجينوس لا يتردد عند اللزوم في مدح الوثنيين لكونهم أدركوا أمرًا إليهًا ولو جزئيًا. وهذه خاصية من خصائص لاهوت الآباء.

الانتصار على سيحون – العظة الثالثة عشر من عظات أوريجانوس على سفر العدد

تقييم المستخدمون: 5 ( 1 أصوات)