أبحاث

إشباع الجموع – إنجيل لوقا 9 ج2 – ق. كيرلس الإسكندري – د. نصحى عبد الشهيد

إشباع الجموع – إنجيل لوقا 9 ج2 – ق. كيرلس الإسكندري – د. نصحى عبد الشهيد

إشباع الجموع – إنجيل لوقا 9 ج2 – ق. كيرلس الإسكندري – د. نصحى عبد الشهيد

إشباع الجموع – إنجيل لوقا 9 ج2 – ق. كيرلس الإسكندري – د. نصحى عبد الشهيد
إشباع الجموع – إنجيل لوقا 9 ج2 – ق. كيرلس الإسكندري – د. نصحى عبد الشهيد

(لو9: 12ـ 17) ” فَابْتَدَأَ النَّهَارُ يَمِيلُ. فَتَقَدَّمَ الاثْنَا عَشَرَ وَقَالُوا لَهُ: اصْرِفِ الْجَمْعَ لِيَذْهَبُوا إِلَى الْقُرَى وَالضِّيَاعِ حَوَالَيْنَا فَيَبِيتُوا وَيَجِدُوا طَعَامًا، لأَنَّنَا ههُنَا فِي مَوْضِعٍ خَلاَءٍ. فَقَالَ لَهُمْ: أَعْطُوهُمْ أَنْتُمْ لِيَأْكُلُوا. فَقَالُوا: لَيْسَ عِنْدَنَا أَكْثَرُ مِنْ خَمْسَةِ أَرْغِفَةٍ وَسَمَكَتَيْنِ، إِلاَّ أَنْ نَذْهَبَ وَنَبْتَاعَ طَعَامًا لِهذَا الشَّعْبِ كُلِّهِ. لأَنَّهُمْ كَانُوا نَحْوَ خَمْسَةِ آلاَفِ رَجُل. فَقَالَ لِتَلاَمِيذِهِ: أَتْكِئُوهُمْ فِرَقًا خَمْسِينَ خَمْسِينَ. فَفَعَلُوا هكَذَا، وَأَتْكَأُوا الْجَمِيعَ. فَأَخَذَ الأَرْغِفَةَ الْخَمْسَةَ وَالسَّمَكَتَيْنِ، وَرَفَعَ نَظَرَهُ نَحْوَ السَّمَاءِ وَبَارَكَهُنَّ، ثُمَّ كَسَّرَ وَأَعْطَى التَّلاَمِيذَ لِيُقَدِّمُوا لِلْجَمْعِ. فَأَكَلُوا وَشَبِعُوا جَمِيعًا. ثُمَّ رُفِعَ مَا فَضَلَ عَنْهُمْ مِنَ الْكِسَرِ اثْنَتَا عَشْرَةَ قُفَّةً “.

 

إن اليهود، في رأيي، ليس لهم ولا حجَّة واحدة يمكن أن تنفعهم أمام منبر الله ليبرروا بها عدم طاعتم، لأن مقاومتهم لا تبدو معقولة. ولماذا الأمر هكذا؟ لأن ناموس موسى يمكن أن يقودهم ـ بواسطة الظلال والرموز ـ إلى سر المسيح. لأن الناموس ـ أو بالحري الأشياء التي يحتويها ـ كان رمزيًّا، وكان سر المسيح مُصوَّرًا فيه بواسطة المثال والظل كما في رسم. وقد سبق الأنبياء المُباركون أيضًا فتنبأوا أنه في الوقت المُعيَّن ينبغي أن يأتي واحد ليفدي كل الذين تحت السماء، بل أعلنوا عن مكان ميلاده بالجسد، والآيات التي سيعملها. ولكن اليهود كانوا معاندين جدًّا، وكان عقلهم متشبثًا بما يتفق فقط مع تحيزاتهم حتى أنهم لم يقبلوا كلمات التعليم ولم ينقادوا للطاعة ولا بواسطة المعجزات الرائعة والمجيدة جدًّا.

هكذا إذن كان سلوكهم، ولكن دعونا نحن الذين قد اعترفنا بحقيقة ظهوره، أن نقدم له تسبيحنا لأجل أعماله الإلهية مثلما هو مُسجَّل في الفقرة التي أمامنا، لأننا نتعلم من هذه الفقرة أن مخلِّصنا كان يخرج من وقت إلى آخر إلى أورشليم والمدن والبلدان الأخرى، وكانت الجموع تتبعه، فكان البعض منهم يطلبون التحرر من طغيان الشياطين، أو الشفاء من المرض، ولكن البعض الآخر كانوا يرغبون أن ينالوا منه التعليم، وكانوا يلازمونه على الدوام بإخلاص عظيم وبجدية، لكي يتعرفوا تمامًا على تعاليمه المقدسة. وحينما بدأ النهار يميل، كما يقول البشير، وكان المساء قد أقبل أعطى التلاميذ اهتمامًا بالجموع واقتربوا من المخلِّص يسألونه من أجلهم. لأنهم قالوا: ” اصرف الجموع ليذهبوا إلى القرى والحقول حوالينا فيبيتوا ويجدوا طعامًا، لأننا هنا في موضع خلاء“.

ولكن دعونا نبحث بعناية عن معني عبارة ” اصرف الجموع” لأننا سنري بواسطتها الإيمان العجيب الذي للرسل القديسين، وأيضًا سنرى القوة الفائقة للطبيعة والمدهشة التي للمسيح مخلِّصنا، فقد كانوا يتبعونه طالبين منه أن ينقذهم من الأرواح الشريرة التي تعذبهم، بينما آخرون كانوا يطلبون الشفاء من أمراض متنوعة. لذلك حيث إن التلاميذ عرفوا أنه بمجرد رضا مشيئته يستطيع أن يتمم لأولئك المرضى ما كانوا يطلبونه، لذلك قالوا له ” اصرفهم”، وهم لا يتكلمون هكذا كما لو كانوا منزعجين من الجموع أو كانوا يعتبرون أن الوقت قد مضى، بل إذ كانوا مأخوذين بالمحبة نحو الجموع، بدأوا يهتمون بالشعب كما لو كانوا يمارسون مقدَّما وظيفتهم الرعوية، لكي نتخذ منهم قدوة لأنفسنا. لأن الاقتراب (من الرب) والتوسل إليه نيابة عن الشعب، هو فِعل لائق بالقديسين، وهو واجب الآباء الروحيين، ودليل على قلب له اهتمام ليس بالموضوعات الشخصية وحدها، بل يعتـبر مصالح الآخَرين هي مصلحته الشخصيَّة، وهذا مثل واضح جدًّا على هذه المحبة الفائقة. وإن كان يسمح لنا أن نمتد بتفكيرنا فوق مستوى الأمور البشرية، فإننا نقول: لأجل منفعة الذين يناسبهم هذا، إننا حينما نواصل الصلاة بحرارة، مع المسيح، سواء كنا نسأله الشفاء من أمراض أرواحنا، أو أن يخلصنا من أي أمراض أخرى، أو كنا نرغب أن نحصل على أي شيء لأجل فائدتنا، فليس هناك أدنى شك أنه حينما نسأل في الصلاة أي شيء صالح لنا، فإن القوات العقلية، وكذلك أولئك الرجال القديسين الذين لهم دالة أمامه، يتضرعون لأجلنا.

 

إشباع الجموع – إنجيل لوقا 9 ج2 – ق. كيرلس الإسكندري – د. نصحى عبد الشهيد
إشباع الجموع – إنجيل لوقا 9 ج2 – ق. كيرلس الإسكندري – د. نصحى عبد الشهيد

ولكن لاحظوا اللطف غير المحدود لذلك الذي يتوسلون إليه، فهو لا يهب فقط كل ما يسألون منه أن يمنحه لأولئك الذين تبعوه، بل أيضًا يضيف خيرات من يده اليمنى السخية، منعشًا بكل طريقة أولئك الذين يحبونه، ويرعاهم ويغذيهم بالشجاعة الروحية. هذا ما يمكن أن نراه مما نقرأ الآن، لأن التلاميذ القديسين طلبوا من المسيح أن يصرف أولئك الذين كانوا يتبعونه ليتفرقوا بقدر ما هو مستطاع، ولكنه أمرهم أن يزودوهم بالطعام. ولكن هذا الأمر كان مستحيلاً في نظر التلاميذ، لأنه لم يكن معهم أي شيء سوي خمس خبزات وسمكتين، وهذا ما اعترفوا به له حينما اقتربوا منه. لذلك، فلكي يوضح عظمة المعجزة، ويجعلها تُظهر بكل طريقة أنه هو الله بطبيعته الخاصة، فقد أكثر هذه الكمية الصغيرة أضعافا مضاعفة، ونظر إلى فوق إلى السماء ليطلب بركة من فوق قاصدًا بهذا أيضًا ما هو لخيرنا. لأنه هو نفسه الذي يملأ كل الأشياء، إذ هو نفسه البركة التي تأتى من فوق، من الآب، ولكي نتعلم نحن أننا حينما نبدأ في الأكل ونكسر الخبز، فمن واجبنا أن نقدمه إلى الله، واضعين إياه على أيدينا الممدودة ونستنزل عليه بركة من فوق، ولذلك فقد صار هو سابقًا لنا، ومثالاً، وقدوة في هذا الأمر.

ولكن ماذا كانت نتيجة المعجزة؟ إنها كانت إشباع جمع كبير وذلك بحسب ما أضافه واحد آخر من البشيرين القديسين إلى رواية المعجزة. والمعجزة لا تنتهي هنا، إذ أنه جُمعت أيضًا ” اثنتا عشر قفة من الكسر“، وما هو الذي  نستنتجه من هذا؟ إنه تأكيد واضح أن كرم الضيافة ينال مكافأة جزيلة من الله فالتلاميذ قدموا خمس خبزات، ولكن بعد أن تم إشباع جمع كبير هكذا، فقد جمع لكل واحد منهم قفة مملوءة من الكسر. لذلك، فلا يجب أن يكون هناك شيء يعوق أولئك الذين يريدون أن يستضيفوا الغرباء، مهما كان هناك ما يمكن أن يثلم إرادة واستعداد الناس لذلك، ولا يقول أحد “إني لا أملك الوسيلة المناسبة، وما أستطيع أن أفعله هو تافه تمامًا لا يكفي كثيرين”. يا أحبائي استضيفوا الغرباء، وتغلبوا على عدم الاستعداد الذي لا يربح أي مكافأة لأن المخلِّص سيضاعف القليل الذي لكم مرات أكثر من أي توقع ورغم أنك لا تعطي إلاَّ القليل، فسوف تنال الكثير ” لأن من يزرع بالبركات، فالبركات أيضًا يحصد” (2كو9: 6) حسب كلمات بولس المبارك.

لذلك، فإن إشباع الجموع في البرية هو جدير بكل أعجاب، ولكنه نافع بطريقة أخرى. لأننا يمكن أن نري بوضوح أن هذه المعجزات الجديدة تتوافق مع تلك المعجزات التي في العهد القديم، وأنها أعمال ذات القوَّة الواحدة التي للشخص المقتدِر الذي صنع المعجزات في العهد القديم. فقد ” أمطر على الإسرائيليين منًّا في البرية وأعطاهم خبزًا من السماء، أكل الإنسان خبز الملائكة” حسب كلمات التسبيح في المزامير (مز77: 24،25 س). ولكن يا للعجب! فإنه في البرية أيضًا أشبع بسخاء ووفرة أولئك المحتاجين إلى الطعام، أتى به كأنه من السماء. لأن إكثاره للقليل مرات مضاعفة، وإطعامه جمع كثير كهذا بالقليل الذي  هو كالعدم، إنما يشبه تلك المعجزة السابقة (إعطاء المن). وأُوجِّه حديثي مرة أخري إلى حشد اليهود قائلا: ” إنكم كنتم في حاجة إلى الماء الطبيعي، حينما كنتم تسيرون في تلك البرية الشاسعة، وأعطاكم الله رغبتكم بما يفوق كل التوقعات، وذلك من مكان لم تكونوا تتطلعون إليه”. لأنه كما يقول المرنم: ” هو شق الصخرة في البرية، وأعطاهم شرابًا كأنه لجج عظيمة، وأخرج مياهًا من الصخر، وجعل المياه تفيض كالأنهار” (مز77: 15و16س). فأخبرني إذن: هل سبَّحتَ صانع المعجزة حينما شربتَ؟ هل تحرك لسانك بالشكر؟ أو هل دفعك ما قد حدث للاعتراف بقوة الله التي لا يُنطق بها؟ الأمر ليس كذلك، لأنك تتذمر على الله قائلاً: ” هل يقدر الله أن يرتِّب مائدة في البرية؟ إنه ضرب الصخرة فتفجرت المياه، وفاضت الأودية، فهل يستطيع أيضًا أن يعطي خبزًا أو يهيئ مائدة لشعبه؟” (مز77: 19و20س). أنت لم تندهش لرؤية الصخر الصواني يصير ينبوعًا لأنهار غزيرة، والينابيع تخرج بطريقة عجيبة من داخل الأحجار، والوديان تجري بقوة سريعة، ولكنك تنسب الضعف للقادر على كل شيء. ومع ذلك فكيف لا يكون واجبًا عليك بالحري أن تلاحظ وتدرك أنه هو رب القوات ؟ فكيف يكون غير قادر على أن يهيئ مائدة، وهو الذي  جعل الصخر الصواني ينبوعًا ونهرًا يفيضان على ذلك الجمع؟

ولكن حيث إنك قد أدخلت نفسك إلى هذه الحماقة العظيمة التي تتصور أنه ليس هناك شيئًا مستطاعًا عند الله، وتقول بثرثرة فارغة إنه لا يستطيع أن يرتب مائدة لشعبه في البرية، فأجب على السؤال الذي نوجهه إليك الآن، هل تقبل الإيمان الآن حينما تري المسيح قد رتب مائدة في البرية، وقد أشبع بوفرة وسخاء جمعًا لا يُحصي بالطعام، حتى تم جمع اثتني عشر قفة من الكسر المتبقية بعد أن شبعوا؟ أم هل لا تزال ترفض أن تؤمن، وتطلب آية أخرى؟ لذلك، فمتى تصير مؤمنًا؟ متى ستكف عن الاعتراض على قوة المسيح التي لا يُنطق بها ؟ متى ستضع بابًا ومزلاجًا للسانك ومتى تخلِّص لسانك من لغة التجديف، وتغيِّره إلى استعمال أفضل بأن تُسبِّحه لكي يمكنك أن تصير شريكًا في البركات التي يمنحها؟ لأن مراحمه تُستعلن لأولئك الذين يحبونه وهو يخلِّصهم من كل مرض. هو يغذيهم أيضًا بالطعام الروحاني، الذي  بواسطته يستطيع كل واحد أن يصل إلى الشجاعة في كل شيء جدير بالمديح.

أما عديمي الإيمان والمزدرين به فهو لا يمنحهم مثل هذه الهبات، بل بالحري يجلب عليهم تلك الدينونة التي يستحقونها عدلاً لأنه قال لهم بواسطة أحد أنبيائه القديسين: “ هوذا الذين يخدمونني يأكلون وأنتم تجوعون. هوذا الذين يخدمونني يشربون وأنتم تعطشون. هوذا الذين يخدمونني يفرحون في سعادة وأنتم تبكون من حزن القلب وتولولون من انكسار الروح” (إش65: 13و14س)، ومكتوب أيضًا ” الرب لا يقتل نفس الصديق بالجوع، ولكنه يبيد حياة الشرير” (أم10: 3 س).

لأن جماعات المؤمنين، لهم في الكتب المقدسة، مرعى مملوء بأنواع مختلفة من النباتات والزهور، تلك الكتب هي مرشدهم الحكيم، وإذ يمتلئ المؤمنون بالفرح الروحاني بسبب التعاليم المجيدة والإرشادات التي تحتويها هذه الكتب، لذلك فهم يأتون كثيرًا إلى المجالس الملكية المقدسة التي توفرها لهم هذه الكتب المقدسة، وهذا هو ما سبق الأنبياء به منذ زمن بعيد بكلمات إشعياء: ” ويكون على كل جبل عال وعلى كل أكمة مرتفعة سواقٍ ومجاري في ذلك اليوم” (إش30: 25). وأيضًا ” ويكون في ذلك اليوم أن الجبال تقطر حلاوة، والتلال تفيض لبنًا” (يؤ3: 18). لأنه من عادة الكتب الإلهية أن تُشبِّه بالجبال والتلال، أولئك الذين أقيموا على الآخرين، أولئك الذين عملهم أن يُعلِّموا الآخرين إذ أنهم مرتفعون جدًّا، وذلك الارتفاع أقصد به سمو أفكارهم المنشغلة بالأمور السماوية، وابتعادهم عن الأمور الأرضية، بينما المياه والحلاوة واللبن تشير إلى التعاليم التي تفيض منهم كما تفيض المياه من الينابيع ويقول الكتاب: ” ويكون حينئذ، في ذلك الوقت أن مياهًا متدفقة وعصيرًا ولبنًا تجرى من كل جبل عال، ومن كل أكمة مرتفعة“، وهذه هي التعزيات الروحية التي للمعلِّمين القديسين، التي يقدمونها للشعب الذي يتولون مسئولية رعايته. إن الجماعات اليهودية محرومة من هذه التعزيات، لأنهم لم يقبلوا المسيح، رب الجبال والتلال، ومعطي التعزيات الروحانية، وهو الذي يقدم نفسه كخبز الحياة لأولئك الذين يؤمنون به، لأنه هو الذي نزل من السماء، وأعطي الحياة للعالم، الذي به، ومعه، لله الآب يليق التسبيح والسلطان مع الروح القدس، إلى دهر الدهور. آمين.

إشباع الجموع – إنجيل لوقا 9 ج2 – ق. كيرلس الإسكندري – د. نصحى عبد الشهيد

تقييم المستخدمون: 5 ( 1 أصوات)