أبحاث

لأجل تذكارات الرسل – إنجيل لوقا 10 ج2 – ق. كيرلس الإسكندري – د. نصحى عبد الشهيد

لأجل تذكارات الرسل – إنجيل لوقا 10 ج2 – ق. كيرلس الإسكندري – د. نصحى عبد الشهيد

لأجل تذكارات الرسل – إنجيل لوقا 10 ج2 – ق. كيرلس الإسكندري – د. نصحى عبد الشهيد

لأجل تذكارات الرسل – إنجيل لوقا 10 ج2 – ق. كيرلس الإسكندري – د. نصحى عبد الشهيد
لأجل تذكارات الرسل – إنجيل لوقا 10 ج2 – ق. كيرلس الإسكندري – د. نصحى عبد الشهيد

 

(لو10: 3) ” اِذْهَبُوا! هَا أَنَا أُرْسِلُكُمْ مِثْلَ حُمْلاَنٍ بَيْنَ ذِئَابٍ “.

 

          الذين يمدحون الكلمة الإلهية والمقدَّسة بصواب وبدون خطأ، هم بالتأكيد حلفاء تعاليم الحق وهم أفضل معلميه، ويعرفون جيدًا كيف يقودون باستقامة كل من يرغب في النمو في المسيح، إلى كل عمل صالح وإلى الحياة غير الفاسدة، وإلى الاشتراك في البركات الموهوبة لنا. وعن هؤلاء يُعلن الحكيم جدًّا بولس أنهم ” أنوار في العالم متمسكين بكلمة الحياة” (فى2: 15).

          والتلاميذ الإلهيون هم أول هؤلاء الرجال البارزين والمشهورين، ويُعتبرون المتقدمين في الترتيب، كان لهم معلِّمًا هذا الذي هو المُعطِي لكل فهم، والذي يسكب نوره على أولئك الذين يحبونه، فهو النور الحقيقي الذي ينير السماء بل والقوات التي فوق، وهو الذي يُخلِّص من الجهالة والظلمة أولئك الذين على الأرض أيضًا. لاحظ كيف أنه جعل المعلِّمين المعيَّنين (للكرازة) لكل الذين تحت الشمس، فَعَلَة مستعدِّين، ذوي غيرة شديدة، وقادرين أن يفوزوا بمجد الانتصارات الرسولية، غير مفضِّلين أي أمر من شئون العالم على واجب الكرازة بالرسالة المقدَّسة، وهكذا أعدُّوا ذهنهم بكل شجاعة أن يرتفعوا فوق كل المخاوف، لا يرتعبون ولا قيد أنملة في الشدائد، ولا ينزعجون من الموت ذاته عندما يأتي عليهم لأجل المسيح. لأنه يقول لهم: ” اذهبوا“. وفى هذه الكلمة ” اذهبوا” يُشجِّعهم ليصيروا أشدَّاء، ويجعلهم يرغبون باشتياق في الانتصارات المقدَّسة، وهكذا يُؤسِّسهم ثابتين راسخين أمام كل تجربة، ولا يدعهم ينكمشون أمام عنف الاضطهادات. وعندما تبدأ المعارك، ويُفرِغ الأعداء سهامهم، فإن القادة الأبطال يُشجِّعون مَن تحت إمرتهم أن يقاوموا هجمات العدو، ويحتملوا بشجاعة، فيقولون لهم مِثل هذه العبارات: ” يا رفاقنا الجنود، لا تنزعج أفكاركم من كل هذه الأشياء التي ترونها، فنحن لسنا ضعفاء، ولسنا غير محنَّكين في القتال، ولكن اعرفوا جيدًا طرق القتال، فنحن نملك دروعًا مصفَّحة قوية الصنع، ونملك أسلحة وسيوفًا وأيضًا أقواسًا ورماحًا، وبالجهاد سننال النصرة، وشجاعة القلب ستحرز لنا بحق شهرة مجيدة. هكذا إذا جاز لنا القول فإن مخلِّصنا أرسل تلاميذه إلى جموع غير المؤمنين قائلاً: ” ها أنا أرسلكم مثل حملان بين ذئاب“.

          ماذا تقول أيها الرب، كيف يستطيع الحمل أن يتحدَّث مع الذئاب؟ متى كان الحيوان المفترس في سلام مع الحمل ؟ فبالكاد يستطيع الرعاة أن يحموا قطعانهم بجمعهم في الحظائر وأن يغلقوا عليها داخل السياجات، وبتخويف الوحوش التي تريد أن تفترس الحملان بواسطة نباح الكلاب، بل وأيضًا يحاربون بأنفسهم ليدافعوا عنها، ويخاطرون لأجل حماية الأعضاء الضعيفة في قطيعهم. كيف إذن يأمر الرب الرسل القديسين الذين بلا لوم ـ كحملان ـ أن يصاحبوا الذئاب ويذهبوا إليهم بأنفسهم؟ أليس الخطر ظاهرًا؟ أمَا يصبحون فريسة جاهزة لهجماتها؟ كيف يستطيع الحمل أن ينتصر على الذئب؟ كيف يمكن للمسالم جدًّا أن يقهر توحش الحيوانات المفترسة؟ نعم، إنه يقول: أنا الراعي لهم جميعًا، للصغير وللكبير، لعامَّة الناس وللأمراء، للمعلِّمين والمتعلِّمين، سأكون معكم وأساعدكم وأخلِّصكم من كل شر. سأذلِّل الحيوانات المتوحِّشة، سأغيِّر الذئاب إلى حملان، وسأجعل المضطهِدِين مساعدين للمضطَهَدين وسأجعل من يسيئون إلى خرافي شركاء في خططهم المقدَّسة، أنا أصنع كل الأشياء، وأنا أحلها، ولا يوجد شيء يستطيع أن يقاوم إرادتي.

   هذه هي النتيجة الفعلية التي حدثت والتي نراها في أمثلة تمَّت بالفعل، فبولس الإلهي كان مجدِّفًا ومضطهِدًا، كان أكثر إيذاءً وقسوة من أي ذئب على أولئك الذين آمنوا بالمسيح، فهل استمرَّ في هذا السلوك؟ هل ظلَّ ذئبًا إلى النهاية؟ كلاَّ بالمرة، لأنه دُعِيَ من المسيح واختبر تغييرًا غير متوقَّع، وهذا الذي كان في القديم ذئبًا أصبح أكثر وداعة من الحمل، وكرز بالإيمان الذي كان يوما يضطهده، وكان مثل هذا التغيير غير المنتَظَر دهشة لجميع الناس، والمسيح تمجد، لأنه غيَّره من وحش مفترس إلى حمل. وهذا ما أنبأ به يعقوب الإلهي في بَرَكته بشأنه إذ قال: ” بنيامين ذئب مفترس، في الصباح يأكل لحمًا، وفى المساء يقسم غنيمته” (تك49: 27 س). لأن الحكيم بولس كان من سبط بنيامين، وكان في الأول كذئب مفترس يقاوم الذين آمنوا بالمسيح، ولكن بعد وقت قصير أي فترة، كما من الصباح إلى المساء، قسم غنيمته، لأنه علَّم عن يسوع وكرز به، والأطفال في المعرفة سقاهم لبنًا، أما البالغين فقدم لهم طعامًا قويًّا. ففي الصباح يأكل لحمًا وفى المساء يقسم ذبيحته، وهذا شيء مختصر فيما يخص المبارك بولس.

          ولكن هيا بنا نناقش نقطة مشابهة، ألا وهى دعوة الأمم، دعنا نرى ما إذا كانوا ـ في وقت ما ـ هم أيضًا وحوشًا كاسرة، وأكثر توحشًا من الذئاب ضد خدام رسالة إنجيل الخلاص، وكيف أنَّهم تحوَّلوا إلى الوداعة وعدم الغش بمعونة المسيح، فهم أيضًا اضطهدوا الرسل القديسين، ليس كأناس يحاربون الذئاب، بل كالوحوش المفترسة يهيجون بوحشيَّة ضد الحملان، ورغم أنهم لم يسيئوا إليهم بل دعوهم إلى الخلاص، إلاَّ أنهم رجموهم وسجنوهم واضطهدوهم من مدينة إلى مدينة، إلاَّ أنَّ هؤلاء الذين تصرفوا هكذا أولاً أصبحوا فيما بعد ودعاء وبلا غش، وصاروا كالحملان التي كانوا قد اضطهدوها!

   مَن سوى يسوع المسيح ربنا يعمل كل هذه الأمور؟

          لأنه هو أيضًا الذي ” نقض حائط السياج المتوسط مبطلاً ناموس الوصايا في فرائض، والذي خلق الشعبين في نفسه إنسانًا واحدًا جديدًا صانعًا سلامًا مصالحًا الاثنين في جسد واحد مع الآب” (أف2: 14). ها قد صار انضمام للإيمان باتفاق واتحاد الفكر والإرادة ـ للمتوحشين مع الودعاء، للنجسين والملوثين بالخطية مع القديسين، أي هؤلاء الذين من قطعان الأمم مع أولئك الذين آمنوا من إسرائيل، وعن هذا يتكلم إشعياء النبي بالروح ويقول: ” فيرعى الذئب مع الحمل، ويربض النمر مع الجدي، وترعى البقرة والدب معًا، ويأكل الأسد والثور التبن معًا، ويربض أولادهما معًا” (إش11: 6 س).

          اعلم أيها الحبيب وافهم، أنَّ أولئك الذين تقدَّسوا بالإيمان لم يشاكِلوا الأمم في عاداتهم، بل بالعكس، فإن المدعوِّين من الأُمم هم الذين شاكلوهم، فإن الذئب والأسد والنمر والدب هي حيوانات آكلة لحوم، أمَّا الحيوانات ذات الطبيعة الهادئة كالجداء والحملان والثيران تغتذي بالعشب. ولكن الحيوانات المفترسة، يقول النبي، سوف ترعى مع الحيوانات الأليفة وتغتذي بطعامها. إذن فليست الحيوانات الأليفة هي التي شاكَلَت عادات المتوحشة، لقد حدث العكس كما قلت، إذ تمثَّلَت الحيوانات المتوحشة بالحيوانات الأليفة، إذ تخلُّوا عن الاتجاهات الشرسة وتحولوا إلى الوداعة التي تليق بالقديسين، وتغيَّروا بالمسيح حتى صارت الذئاب حملانًا، لأنه هو الذي صيَّرهم ودعاء، ووحَّد الشعبين كما قلت، إلى ذهن مملوء بمحبة الله. هذا ما أعلنه موسى النبي في القديم صارخا: ” تهَّللوا أيها الأمم مع شعبه، أعطوا عزَّة لله” (تث32: 43 س). فلنعظِّمه ونكرِّمه بالتماجيد، بسبب المخلِّص رب الكل الذي به وله مع الآب التمجيد والسلطان إلى أبد الآبدين آمين.

 

(لو10: 4ـ7): ” لاَ تَحْمِلُوا كِيسًا وَلاَ مِزْوَدًا وَلاَ أَحْذِيَةً، وَلاَ تُسَلِّمُوا عَلَى أَحَدٍ فِي الطَّرِيقِ. وَأَيُّ بَيْتٍ دَخَلْتُمُوهُ فَقُولُوا أَوَّلاً: سَلاَمٌ لِهذَا الْبَيْتِ. فَإِنْ كَانَ هُنَاكَ ابْنُ السَّلاَمِ يَحُلُّ سَلاَمُكُمْ عَلَيْهِ، وَإِّلاَّ فَيَرْجعُ إِلَيْكُمْ. وَأَقِيمُوا فِي ذلِكَ الْبَيْتِ آكِلِينَ وَشَارِبِينَ مِمَّا عِنْدَهُمْ، لأَنَّ الْفَاعِلَ مُسْتَحِق أُجْرَتَهُ. لاَ تَنْتَقِلُوا مِنْ بَيْتٍ إِلَى بَيْتٍ “.

 

          النحلة الحكيمة الماهرة تزور الزهور في الحقول والمروج، وتجمع الأكل من عليها ومنه تصنع العسل الحلو، والحكيم سليمان يدعونا لنحاكيها في سلوكها فيقول: ” اقترب من النحلة وتعلم من كدها، وكم هو رائع نتاجها، لذلك فهو ممدوح ومحبوب من كل الناس، ومن (نتاجها) يستخدم الملوك والعظماء لأجل صحتهم” (أم6: 8 س). تعال الآن إذن ودعنا نتجوَّل في المروج العقلية لنجمع الندى المتساقط من الروح القدس على رسالة الإنجيل الإلهية، حتى إذا ما امتلأت عقولنا بالغِنى نحصل على العسل الروحاني، أي الكلمة المفيدة والنافعة لكل العطاش لوصول التعاليم الإلهية، إن كانوا نبلاء مشهورين أو خاملي الذكر أو بسطاء في دعة من الحياة، لأنه مكتوب ” الكلمات الطيِّبة كقرص الشهد وحلاوتها شفاء للنفس” (أم16: 24).

          والآن ماذا تكون هذه الكلمات الطيِّبة الرقيقة إلاَّ ما يقوله لنا المسيح، جاعلاً هؤلاء الذين يحبونه حاذقين بسبب تكرار تعليمهم في السعي المقدس؟ وخذ دليلاً على كلامي هذه العبارات التي تُلِيَت على مسامعنا الآن: ” لا تحملوا كيسًا ولا مزودًا ولا أحذية“. أتوسل إليك، تفهَّم طبيعة طريق القداسة الرسولي المرسوم لهم، لأنه يجب على هؤلاء الذين سيصيرون أنوارًا ومعلِّمين لكل الذين تحت السماء ألاَّ يتعلموا من آخر سوى الذي هو الكلمة الذي نزل من فوق، من السماء، نبع الحكمة والنور العقلي، الذي منه يأتي كل فهم ومعرفة وكل صلاح. ما يريده منهم إذن هو أنهم عندما يُعلِّمون الناس في كل مكان بالكلمة التي قالها لهم، وفى دعوتهم لسكان الأرض كلها للخلاص، يجب عليهم أن يسافروا بلا كيس ولا مزود ولا أحذية، وأن يمضوا بسرعة من مدينة إلى مدينة ومن مكان إلى مكان. ولكن يجب ألاَّ يقول أحد بأي حال أنَّ الهدف من تعليمه هذا هو أن يجعل الرسل يرفضون استخدام الأدوات الطبيعية، لأنه ماذا ينفعهم أو ماذا يضرهم إذا كان لهم حذاء في أرجلهم أو يمضوا بدونه، ولكن الذي يرغب أن يَعلَموه من هذه الوصية وأن يجتهدوا أن يمارسوه هو هذا بالتأكيد: ينبغي أن يلقوا بكل تفكير في احتياجهم وقُوتِهِم عليه، وأن يذكروا القديس الذي قال: ” ألق على الرب همك فهو يعولك” (مز54: 22) لأنه يُعطي القديسين ما يلزمهم للحياة، وهو لا يتكلم عبثًا حيث يقول: ” لا تهتموا لحياتكم بما تأكلون وبما تشربون، ولا لأجسادكم بما تلبسون، لأن أباكم السماوي يَعَلم أنكم تحتاجون إلى هذه كلها. لكن اطلبوا أولاً ملكوت الله وبره وهذه كلها تُزاد لكم” (مت6: 25).

          لأنه كان حقًّا لائقًا جدًّا بهؤلاء المتحلِّين بالكرامات الرسوليَّة أن يكون لهم ذهن خال من الشهوة، وكارهًا تمامًا لتقبُّل الهدايا، بل وبالعكس قانعًا بما يمنحه الله، لأنه كما يقول الكتاب: ” لأن محبة المال أصل لكل الشرور” (1تي6: 10)، لذلك كان يجب ـ ومن كل جهة ـ أن يكونوا أحرارًا ويكونوا معفين مما هو أصل ومُغذِّى كل الشرور، ويُوجِّهوا كل غيرتهم إلى واجباتهم الضرورية، فلا يتعرضوا هكذا لهجوم الشيطان إذ أنهم لا يأخذون معهم أي ثروة عالمية، لكن يحتقرون أمور الجسد راغبين فقط في ما يريده الله.

          وكما أنَّ الجنود الشجعان عندما يمضون إلى المعارك لا يحملون معهم شيئا سوى ما يخص الحرب فقط، هكذا كان لائقا أنَّ أولئك الذين أرسلهم المسيح ليعِينوا العالم وليشنُّوا حربًا ضد ” ولاة العالم على ظلمة هذا الدهر” (أف6: 12)، نعم بل وضد الشيطان نفسه، لحساب الذين كانوا في خطر، يجب أن يكونوا أحرارًا من جميع مجاذبات هذا العالم ومن كل اهتمام عالمي، حتى يكونوا متمنطقين بإحكام، ولابسين السلاح الروحي، فإنهم يجاهدون باقتدار ضد أولئك الذين قاوموا مجد المسيح، وقد جعلوا كل الذين تحت السماء غنيمة لهم، لأنهم جعلوا سكانها يعبدون المخلوق بدلاً من الخالق، وأن يُقدِّموا خدمة دينيَّة لعناصر الكون، فيجب أنَّ هؤلاء التلاميذ يتسلَّحون بترس الإيمان ودرع الحق وسيف الروح الذي هو كلمة الله، حتى يبرهنوا أنهم بحق مقاومين للأعداء لا يقهرون، فلا يجرُّون خلفهم حملاً ثقيلاً من الأشياء التي تستوجب اللوم والإدانة: كمحبة الغنى، والمدخرات من الأرباح الخسيسة، والتلهف نحوهما، لأن هذه الأشياء تحيد بذهن الإنسان عن السلوك الذي يرضي الله، ولا تسمح له بالصعود نحوه، بل بالحري تحدره إلى مشاعر متعلِّقة بالتراب والأمور الأرضية.

          فبتوجيه الرب للتلاميذ ألاَّ يحملوا كيسا ولا مزودا… وبالأكثر ألاَّ يشغلوا أنفسهم بالحذاء، فهو إنَّما يُعلِّمهم بوضوح أنَّ وصاياه تلزمهم أن يتخلوا عن كل غنى جسداني وأن يتحرَّروا من كل عائق عند دخولهم إلى العمل الذي دعوا خصِّيصًا له: عمل الكرازة، أي تعليم سر المسيح للناس، في كل مكان، وأن يربحوا إلى الخلاص الذين كانوا متورِّطين في شباك الهلاك.

          ثم يضيف على هذا أنهم: ” لا يسلِّموا على أحد في الطريق“، ولكن أي   ضرر يسبب السلام للرسل القديسين؟ تعالوا إذن، تعالوا لنرى لماذا وجب عليهم ألاَّ يُسلِّموا على أحد من الذين يقابلونهم، بلا شك سوف تقول إنه قد يحدث أن يقابلوا غير مؤمنين، فلا يصح إذن لهؤلاء الذين لا يعرفون هذا الذي هو الله بالطبيعة وبالحق، لا يصح أن يتقبلوا البركة من التلاميذ.

          ماذا نقول ردًّا على هذا التفكير؟ ألا يظهر أنه افتراض غير مقبول أن يكون هذا هو السبب الذي لأجله أوصاهم الرب ألاَّ يُسلِّموا على أحد في الطريق؟ لأنه أرسلهم لا ليدعوا أبرارًا بل خطاة إلى التوبة (مت9: 13)، فكيف لا يكون مناسبًا لهؤلاء الذين أُرسلوا ليُغيِّروا الذين في الظلمة، وليأتوا بهم إلى معرفة الحق، أن يستخدموا الرقة واللطف بدلاً من أن يبتعدوا عنهم بخشونة ويرفضون مصاحبتهم، بل وحتى يرفضون السؤال عن صحتهم؟ فبالتأكيد إنه بالإضافة إلى الصفات الأخرى الجيِّدة، فإن رقَّة الحديث مع صفات حسنة أخرى هي أمور تليق بالقديسين، وهكذا التحيات ما دامت تؤدَّى بطريقة مناسبة. وقد يحدث أن يكون مَن يتقابلون معهم، ليسوا مِن غير المؤمنين بل مِن نفس معتقدهم، أو مِن الذين سبق أن استنيروا، الذين يجب تقديم المحبة لهم عن طريق تحيَّة رقيقة.

          فماذا يقصد المسيح إذن من تعليمه هذا؟ إنه لا يوصيهم أن يكونوا شرسين ولا يأمرهم أن لا يهتموا بعدم التحيَّة، هو بالحري يُعلِّمهم أنَّ يتحاشوا مثل هذا التصرف. ولكن السبب هو أنه قد يحدث أنه بينما يسافر التلاميذ بين المدن والقرى ليعلِّموا الناس الوصايا المقدسة، فإنهم قد يرغبون في أداء هذه المهمة، ليس بسرعة بل بتلكؤ وإذ يحيدون عن الطريق ليروا صديقًا أو آخر، وهكذا فإنهم سيصرفون الوقت المناسب للتعليم بإضاعته في أشياء غير هامة، لذلك فهو يقول لهم: كونوا متحمِّسين وفى اجتهاد شديد لتوصيل رسالتكم المقدسة، وألا يبطئوا بلا سبب من أجل صداقة ما، ولكن ليكن ما يرضي الله هو المُفضَّل لديكم عن كل الأشياء الأخرى، وهكذا إذ تمارسون اجتهادًا لا يقاوَم ولا يُعرقَل، فإنكم تمسكون تمامًا باهتماماتكم الرسوليَّة.

          وإلى جانب ذلك هو يوصيهم أيضًا قائلا: ” لا تعطوا القدس للكلاب ولا تطرحوا درركم قدام الخنازير” (مت7: 6)، وذلك بأن يمنحوا لغير المؤمنين الشركة بالإقامة عندهم، بدلاً من أن يمنحوها متفضِّلين بها لمن يستحقون، بأن يكونوا أبناء سلام ومطيعين لرسالتهم، لأنه أمر مكروه لهم أن يقتربوا مع من لا يزال يقاوم مجد المسيح، ويخطئ بعدم الإيمان، لأنه ” أي نصيب للمؤمن مع غير المؤمن؟” (2كو11: 15)، لأنه كيف يمكن للذين لم ينصتوا بعد لكلمات الرسل، وللذين يجعلون مِن تعاليمهم الجديرة بالاعتناق، فرصة أحيانًا للسخرية، كيف يمكن لهؤلاء أن يقبلوا الرسل كمستحِقِّين لإعجابهم؟ وهذا ما حدث في أثينا أيضًا، فالبعض هزءوا ببولس الإلهي لمَّا علّمهم ” أنَّ الله لا يسكن في هياكل مصنوعات بالأيادي” (أع17: 24)، فهو غير مادي ولا نهاية له، وهو الذي يملأ الكل ولا يحويه شيء، ثم بيَّن لهم أنه يُعلِّمهم عن ” الذي مع أنهم لا يعرفونه يتصوَّرون أنهم يعبدونه بالحق” ولكنهم إذ سلَّموا أنفسهم للعجرفة وهم يُعظِّمون أنفسهم بسبب طلاقة ألسنتهم قالوا في غبائهم: ” ماذا يريد هذا المهزار أن يقول؟ لأنه يظهر مناديًا بآلهة غريبة“. أما كلمة مهزار Seed Picker فهي اسم لطائر لا قيمة له، والذي من عادته أن يلتقط البذار من الطريق، وهم إذ يُشبِّهون بولس الإلهي به، فإن هؤلاء الأغبياء يهزأون بكلمة الخلاص التي قُدِّمَت لهم.

          لذلك أوصاهم المسيح أن يسكنوا مع أبناء السلام، وأن يأكلوا على نفقتهم، مبينًا أنَّ هذا قانون عادل ” لأن الفاعل مستحق أجرته” ؟ لذلك يجب على كل من يقبل الحق ألاَّ يهمل بل يعتني بواجب إكرام القديسين لأنهم يباركوننا: حينما يزرعون لنا الروحيَّات، فإنهم يحصدون منا الجسديَّات، ” هكذا أَمَرَ الرب أيضًا أنَّ الذين ينادون بالإنجيل مِن الإنجيل يعيشون” (1كو9: 11، 14) حيث إنه أيضًا بحسب ناموس موسى فإن ” الذين يُقدِّمون الذبائح يُشارِكون المذبح“.

          فيجب على الذين لا يعتنون بإكرام القديسين ويمسكون أيديهم بشح عنهم، أن يتأكدوا أنهم إنما يحرمون أنفسهم من بركتهم، وليكن نصيبنا في أن نكون شركاء البركات التي أعدَّها الله لهم، بأن نقدِّم لهم كثمر أي شيء نملكه، ونفعل هذا بشعور المسرَّة، لأن المُعطِي المسرور يُحبه المسيح (2كو9: 7) الذي به ومعه لله الآب التسبيح والسلطان مع الروح القدس إلى أبد الآبدين آمين.

لأجل تذكارات الرسل – إنجيل لوقا 10 ج2 – ق. كيرلس الإسكندري – د. نصحى عبد الشهيد