آبائياتأبحاث

قيامة المسيح ج4 – القديس كيرلس عمود الدين – د. نصحي عبد الشهيد

قيامة المسيح ج4 - القديس كيرلس عمود الدين - د. نصحي عبد الشهيد

قيامة المسيح ج4 – القديس كيرلس عمود الدين – د. نصحي عبد الشهيد

قيامة المسيح ج4 - القديس كيرلس عمود الدين - د. نصحي عبد الشهيد
قيامة المسيح ج4 – القديس كيرلس عمود الدين – د. نصحي عبد الشهيد

قيامة المسيح

من شرح إنجيل يوحنا

للقديس كيرلس الأسكندري

نفخة الروح القدس بعد القيامة:

          ولكن لأن البعض قد يسأل بسبب محبته للمعرفة ـ وهذا حسن جدًا ـ أين ومتى أخذ الرسل نعمة الروح القدس؟ هل عندما ظهر لهم المخلّص بعد قيامته ونفخ وقال لهم اقبلوا الروح القدس أم في أيام العنصرة عندما كانوا مجتمعين معًا وفجأة جاء من السماء صوت كهبوب ريح عاصفة. وظهرت لهم ألسنة من نار منقسمة واستقرت على كل واحد منهم. وبدأوا يتكلمون بألسنة أخرى كما أعطاهم الروح أن ينطقوا (أع1:2ـ4)؟ أم أننا نفترض أنهم نالوا نعمة مضاعفة في يوم الخمسين؟ أم أننا يجب أن نبقى جاهلين المناسبة التي فيها صار الرسل شركاء الروح القدس؟ فإذا كان ما ذكره مخلّصنا هنا وما هو مكتوب في سفر الأعمال صحيحًا، فإن السؤال يغرينا بالبحث، خصوصًا لأن المسيح نفسه قال: “ خير لكم أن أنطلق لأنه إن لم أنطلق لا يأتيكم المعزى ولكن متى ذهبت سوف أرسله إليكم” (يو7:16). ومن يسأل سوف يقول أيضًا: ” إن الحق الذي هو المسيح لا يكذب وعندما يقول بكلمات واضحة إن المعزى لن يأتى للتلاميذ إلاّ إذا ذهب هو للآب وأنه متى ذهب للآب سوف يرسله أى متى صعد إلى السماء وجلس عن يمين الآب. فكيف أعطى الروح القدس فور قيامته وقبل صعوده؟ وبحث هذا الموضوع محير وغامض جدًا إذا لم نتذكر إيماننا في المسيح الذي هو الإله القادر على أن يضبط كل كلماته وأن يعطى المعانى الدقيقة لكل كلمة يقولها.

          لقد أعلن المسيح أنه سيرسل لنا من السماء المعزى عندما يصعد إلى الله الآب وبكل يقين فعل هذا. لأنه بعد صعوده سكب الروح بغزارة على كل الذين كانوا يرغبون قبوله. لأن كل إنسان يستطيع قبول الروح القدس بالإيمان والمعمودية المقدسة كما قال النبى ” سأسكب من روحى على كل جسد” (يوئيل28:2). ولكن كان من الضرورى بالنسبة لنا أن نرى الابن يمنح لنا مع الآب الروح القدس. لأن الذين آمنوا به (بالابن) كان ضروريًا لهم أن يؤمنوا أنه قوة الآب الذي خلق العالم كله وخلق الإنسان من العدم. لأن الله الآب في البدء بكلمته أخذ من تراب الأرض ـ كما هو مكتوب ـ وخلق الإنسان كائنًا حيًا له نفس عاقلة حسب إرادته وأناره بنصيب من روحه ” ونفخ في أنفه نسمة الحياة ” (تك7:2). ولكن عندما سقط الإنسان بعصيانه واستعبد لقوة الموت وفقد كرامته القديمة أعاده الله الآب وجدده إلى الحياة الجديدة بالابن كما كان في البدء. وكيف جدده الابن؟ بموته بالجسد ذبح الموت وأعاد الجنس البشرى إلى عدم الفساد عندما قام من الموت لأجلنا. ولكي نعلم أنه هو هو الذي في البدء خلقنا وختمنا بالروح القدس، لذلك يمنح مخلّصنا الروح القدس من خلال العلامة المنظورة أى “نفخته” للرسل القديسين لأنهم باكورة الطبيعة البشرية المجددة. وكما كتب موسى عن الخلق الأول أن الله نفخ في أنف الإنسان نسمة الحياة، يحدث نفس الشئ الذي حدث في البدء عندا يجدد الله الإنسان وهو ما يسجله يوحنا هنا. وكما خلق الإنسان في البدء على صورة خالقه. كذلك الآن بالاشتراك في الروح القدس يتغير إلى صورة خالقه ويصبح على مثاله. ولا يوجد لدينا أدنى شك في أن الروح القدس هو الذي يختم صورة المخلّص على قلوب الذين يقبلون المخلص. وهذا واضح تمامًا من تحذير بولس للذين سقطوا في التمسك بالناموس عندما قال: ” يا أولادي الصغار أنتم الذين اتمخض بهم ثانية إلى أن يتصور المسيح فيكم” (غل10:4)، وهو يقول إن المسيح لن يتكون فيهم إلاّ بالاشتراك في الروح القدس وبالحياة حسب شريعة الإنجيل. للذك يؤسس المسيح من جديد روحه في تلاميذه باعتبارهم باكورة ثمار الخليقة التي ولدت لعدم الفساد وللمجد في صورة الله، وكان من الضروري أن نرى هذا الحق واضحًا ليكون إيماننا بالابن سليمًا لأنه هو الذي يأتي بالروح من فوق وهو الذي منح لنا الروح كما قال ” كل ما هو للآب فهو لي” (يو15:16) وكما أن الآب له الروح في ذاته هكذا الابن له الروح في ذاته لأنه جوهر واحد معه.

          ومن هذه الحقيقة نستنتج أن كل ما سبق ووعدنا به قد أكمله في الوقت المعين ولكنه دائمًا يعطى بشكل جزئي ما وعد بأن يعطيه في المستقبل لأننا عندما ننال العربون نعلم بكل يقين أن ما تكلم به سوف يتحقق كاملاً. لقد أعلن أنه سوف يقيم جميع الموتى وسوف يعيد إلى الحياة كل الذين رقدوا في الأرض أي في القبور. وقال ” تأتي ساعة حين يسمع الموتى صوت ابن الله والسمعون يحيون. فيخرج الذين فعلوا الصالحات إلى قيامة الحياة والذين عملوا السيئات إلى قيامة الدينونة” (يو28:5و29). وأراد أن يؤكد لنا أنه قادر على هذا فقال: ” أنا هو القيامة والحياة” (يو2:11). ولكن لأن معجزة إقامة الموتى جميعًا عظيمة جدًا بل توجد صعوبة في تصديق عودة الموتى إلى الحياة، لذلك أراد المسيح أن يقدم معونة لنا، معلنًا وقت القيامة مقدمًا ومعطيًا علامة عليها بإقامة لعازر وابن الأرملة وأبنة يايرس. وماذا أيضًا؟ قال إن قيامة القديسين مجيدة جدًا: “سيضئ الأبرار مثل الشمس في ملكوت أبيهم” (مت43:13). ولكي نصدّقه ونعرف أنه قال الحق، أعطى قبل الوقت أن نرى هذا المجد فأخذ بطرس ويعقوب ويوحنا وصعد بهم إلى الجبل وتجلى أمامهم وأضاء وجهه مثل الشمس وصارت ثيابه بيضاء كالنور (مت2:17). وهكذا رغم أنه حدد وقتًا معينًا لتحقيق كل شئ إلاّ أنه كان يعطي بشكل جزئي وفي نطاق محدود قبل الوقت المحدد كعربون وتذوق مسبق لما هو متوقع أن يحدث بشكل كامل للخليقة كلها. ولقد فعل هذا لكي لا يتزعزع الإيمان به. وهكذا على نفس المنوال وعد بأن يرسل المعزى إلينا بعد صعوده للآب، وحدد لذلك الوقت المعين أي بعد صعوده لكي يعطى النعمة للكل، إلاّ أنه قبل الوقت المحدد أعطى بداية النعمة وكدفعة أولى من النعمة وهب التلاميذ الروح القدس بعد قيامته وبذلك حقق جزئيًا الوعد الذي نطق به لنفس الأسباب التي ذكرناها سابقًا.

          وهكذا اشتركوا في الروح القدس عندما نفخ قائلاً: ” اقبلوا الروح القدس” ومن المستحيل أن يكذب المسيح، وكان من المستحيل أن يقول “اقبلوا” دون أن يعطى، أما في أيام العنصرة المقدسة فقد أعلن الله علانية نعمته وأظهر مجيء الروح القدس للكل وليس للتلاميذ فقط، ولذلك ظهر مجيء الروح القدس بشكل ألسنة نارية، ولم يكن هذا بالنسبة للتلاميذ بداية نعمة الروح القدس الذي سكن في قلوبهم ولكن بداية نعمة التكلم بالألسنة. كما هو مكتوب إنهم بدأوا يتكلمون بألأسنة كما أعطاهم الروح أن ينطقوا (أع4:2)، وهذا يعنى بداية التكلم بالألسنة وليس بداية التقديس لأن العنصرة بداية عمل العطايا المتنوعة لا سيما الألسنة المختلفة أي بداية عمل الروح القدس الذي فيهم، وكمثال على صحة ما نقول لقد تكلم الآب من السماء وشهد عن ابنه قائلاً: ” هذا هو ابني الحبيب الذي به سررت” (مت17:2)، ولم تكن هذه بداية الابن، بل بداية الإعلان عنه لكي يكمل بهذا الإعلان معرفة الذين سمعوا صوته وكما جعل صوته يصل مثل نغمة إلى الآذان، هكذا أيضًأ يوم العنصرة جعل ظهور وإعلان النعمة التي وُهبت للتلاميذ القديسين بشكل ألسنة نارية وجعل نزول الروح القدس يشبه صوت ريح عاصف (أع2:2). كان كل هذا علامة لليهود وسوف يظهر ذلك بكل وضوح إذا سمعنا كلمات الله رب الكل قائلاً على لسان النبي: ” بذوي ألسنة أخرى وبشفاة أخرى سأكلم هذا الشعب” (إش11:28، 1كو21:14).

          ولكي نؤمن أن التلاميذ القديسين قد اشتركوا فعلاً في الروح القدس وأنهم قد أُكرموا بنعمة المسيح التي من فوق ووُهبوا أن يشرحوا الحق وأن مجد رسوليتهم يستحق كل الإعجاب، قُدِّمت لهم الشهادة يوم الخمسين بالعطية التي من فوق أي بمجيء النار في شكل ألسنة وبنزول الروح على شكل ريح عاصف.

          أعتقد أنني فعلاً شرحت بكفاية وبكل دقة معنى النص ولكن لئلا يجد أحد في الأشياء التي نكتبها حجر عثرة نحتاط تمامًا ونشرح كل شئ لا سيما من أجل الذين يحبون الجدل من الاخوة، ولذلك نزيد على ما ذكرناه من أجل هدم الأقوال الباطلة التي نتوقعها.

 

اشتراك توما في الروح القدس:

          سوف نجد في الفقرة التالية لما شرحناه الكلمات التالية: ” توما الذي يُقال له التوأم لم يكن مع التلاميذ حينما جاء يسوع” (يو24:20). كيف ـ ربما سأل البعض وهو سؤال معقول ـ كان بعيدًا واشترك معهم في الروح القدس عندما ظهر المخلص وقال لهم اقبلوا الروح القدس”؟ والإجابة على هذا السؤال هي: أن قوة الروح تملأ كل البشر وعندما قصد الرب أن يعطيه للتلاميذ لم يكن يقصد أن يعطيه للبعض دون الآخرين ومن كان غائبًا منهم فقد قبله لأن كفاية الواهب ليست قاصرة على الموجودين بل تمتد إلى كل جماعة الرسل. وهذا الحق ليس من خيالنا ولا هو من ضلال، ولذلك علينا أن نقنعهم من الكتب المقدسة نفسها مؤكدين ذلك بفقرة من توراة موسى، لأن الرب الإله أمر موسى الحكيم أن يختار سبعين شيخًا من جماعة اليهود وصرح علانية: ” سوف آخذ من الروح الذي عليك وأضع عليهم” (عد17:11). وأطاع موسى وأحضرهم إلى خيمة الاجتماع (عد24:11) إلاّ رجلين تخلفا عن الحضور ومكثا في المحلة وهما ألداد وميداد، لكن الله وضع عليهم الروح الإلهي كما وعد وأخذ الكل النعمة.. الذين كانوا في خيمة الاجتماع مع موسى وكذلك الاثنين اللذين تخلفا، الكل تنبأوا. وفي الحقيقة أن الرجلين اللذين تخلفا تنبأ ونالا النعمة من فوق قبل الباقين. إلاّ أن يشوع بن نون الذي كان يلازم موسى دائمًا والذي لم يفهم معنى السر ظن أن الرجلين ألداد وميداد يمهدان لانقسام مماثل لما صنعه “داثان وأبيرام”، ولذلك أسرع إلى موسى قائلاً: ” يا سيدي موسى أردعهما” (عد28:11)، ولكن بماذا أجاب الرجل العظيم والحكيم الذي رأى بحكمته أن النعمة من فوق وأنهما قد نالا معًا قوة الروح؟ “.. هل تغار أنت لي؟ يا ليت كل شعب الرب كانوا أنبياء إذا جعل الرب روحه عليهم” (عد29:11). ولاحظ كيف ينتهر يشوع الذي لم يعرف ماذا حدث. كان موسى يتمنى أن يعطى الروح للشعب كله ولكن هذا كان سيحدث في الوقت المعين عندما يمنح الرب المسيح الروح القدس للكل وينفخه على تلاميذه كباكورة البشرية قائلاً: ” اقبلوا الروح القدس “. ومع أن توما لم يكن موجودًا إلاّ أنه لم يُحرم من قبول الروح القدس لأن الروح حلّ في الكل أي الذين وُعدوا بأن يأخذوه وهم الذين حُسبوا ضمن جماعة الرسل المكرمين.

 

من غفرتم خطاياه:

          وعندما أعطى المسيح الروح القدس قال: ” من غفرتم خطاياه تُغفر له ومن أمسكتم خطاياه أُمسكت“. والله الحي وحده هو القادر على أن يمنح الخطاة غفران الخطايا. ولا يستطيع أحد أن يعفو عن ذنوب الذين يخطئون ضد الناموس الإلهي إلاّ واضع الناموس نفسه. ولكننا نستطيع أن ندرك معنى النص بالمقارنة بالأمور البشرية مع الاحتفاظ بالفوارق. الذين ينفذون أحكام وقوانين ملوك الأرض أو يلغون قرارتهم هم الذين نالوا المقام والكرامة الملوكية. وقياسًا على هذا، بأي كيفية وبأي معنى أعطى المخلص لرسله الكرامة اللائقة بالله وحده؟  الكلمة الذي في الآب لا يمكنه أن يخطئ وما يفعله إنما يفعله بكل صلاح فهو الذي دبر أن الذين منحوا الروح القدس وهو الرب والله، تصبح لهم القوة على أن يغفروا ويمسكوا الخطايا لأن الروح القدس الساكن فيهم هو الذي يغفر ويمسك، حسب إرادته رغم أن العمل يتم بوسيلة بشرية. والذين لهم روح الرب يغفرون أو يمسكون الخطايا بطريقتين:

          أولاً: إنهم يدعون الناس للمعمودية والذين يستحقون المعمودية بسبب التوبة ونقاوة حياتهم بعد اختبار التصاقهم بالإيمان ينالون المغفرة ولكن في نفس الوقت يمنعون بل يطردون الذين لا يستحقون هذه النعمة الإلهية وهكذا يمسكون الخطايا.

          ثاينًا: إنهم يغفرون الخطايا أو يمسكونها عندما ينتهرون أبناء الكنيسة الذين يخطئون ويمنعون الصفح عمن لا يتوب كما فعل بولس عندما سلم الذي زنى في كورنثوس لهلاك الجسد لكي تخلص الروح (1كو5:5)، وبعد ذلك أعاده إلى الشركة لكيلا يُبتلع من فرط الحزن (2كو7:2).

          وعندما يسكن روح المسيح في قلوبنا فإنه يعمل الأمور التي تخص الله وحده، لأنه الله الحي الذي له المجد والكرامة الخاصة باللاهوت وله القوة والسلطان على القوانين المقدسة.

 

قيامة المسيح ج4 – القديس كيرلس عمود الدين – د. نصحي عبد الشهيد