هل أساء كليمندس الإسكندري إلى المرأة؟ قراءة نقدية في مواقفه اللاهوتية والأخلاقية – ترجمة ودراسة Patricia Michael
هل أساء كليمندس الإسكندري إلى المرأة؟ قراءة نقدية في مواقفه اللاهوتية والأخلاقية – ترجمة ودراسة Patricia Michael

مقدمة
انتشر بين بعض النقّاد قول يُنسب إلى كليمندس الإسكندري، الفيلسوف واللاهوتي المسيحي من القرن الثاني الميلادي مفاده:
«كل امرأة يجب أن تشعر بالخزي لمجرّد كونها امرأة» ( “Every woman ought to be filled with shame at the thought that she is a woman.”)
تُعدّ هذه العبارة من أكثر الاقتباسات تداولًا في سياق الانتقادات الموجّهة إلى التراث المسيحي فيما يتعلق بالمرأة ومكانتها.
تهدف هذه الدراسة إلى فحص مدى صحة نسبة هذا القول إلى كليمندس الإسكندري، عبر مراجعة دقيقة لمؤلفاته الأصلية، وتحليل السياقات التي تناول فيها المرأة والجنس والجسد. كما تسعى إلى تصحيح المفاهيم الخاطئة التي قد تكون نشأت نتيجة تداول هذا الاقتباس خارج سياقه أو بنقل مشوّه.
يتألف البحث من ثلاث اقسام رئيسية:
🔴القسم الأول: دراسة نقدية وتحليلية لنظرة كليمندس الاسكندري وكتاباته فيما يخص المرأة
🔴القسم الثاني: التحقيق في صحة القول المنسوب إلى كليمندس الإسكندري ومطابقته للنصوص الاصلية
🔴 القسم الثالث: تتبع تاريخي وتحليلي لأصل وانتشار هذا الاقتباس المنسوب إلى كليمندس الإسكندري
______________________________________
🔴القسم الأول: دراسة نقدية وتحليلية لنظرة كليمندس الاسكندري وكتاباته فيما يخص المرأة
اولا: نظرة كليمندس إلى المرأة في فكره اللاهوتي والأخلاقي
يُظهر فكر كليمندس الإسكندري (Clement of Alexandria) اتجاهًا لاهوتيًا وأخلاقيًا متزنًا، بل ومتحرّرًا نسبيًا من التصورات السائدة في عصره فيما يخص المرأة. فعلى خلاف النظرة الدونية التي تبنّتها العديد من المدارس الفلسفية والأنظمة الدينية الوثنية تجاه المرأة، والتي غالبًا ما اعتبرتها أدنى طبيعة من الرجل أو مصدرًا للنجاسة، يقدّم كليمندس تصورًا مسيحيًا أصيلًا يقرّ بالمساواة الروحية والأخلاقية بين الجنسين، ويؤكّد على أهلية المرأة الكاملة لممارسة الفضيلة وبلوغ الكمال والخلاص.
يرى كليمندس أن الحياة المسيحية، والتعليم الروحي، وممارسة الفضائل، والخلاص، جميعها متاحة للرجل والمرأة على حدٍ سواء. وهو بهذا يعبّر عن وعي مسيحي مبكّر بمبدأ المساواة الروحية بين الجنسين، في مقابل التقاليد الفلسفية الوثنية التي غالبًا ما قلّلت من شأن المرأة.
وفيما يلي أبرز كتاباته في هذا الشأن:
1- المساواة الكاملة في الفضيلة والخلاص
يرى كليمندس أن الفضيلة لا تُقسّم بحسب النوع الاجتماعي، بل هي واحدة للرجل والمرأة، وأن دعوة الله للخلاص تشمل كليهما بالتساوي. وهو يصرّح بذلك بوضوح في قوله:
🔹«فضيلة الرجل والمرأة هي واحدة ونفس الشيء. لأنه إن كان الله واحدًا، فالمسيح واحد أيضًا؛ كنيسة واحدة، حشمة واحدة، عفة واحدة؛ طعامهما مشترك، والزواج متساوٍ… فالحياة التي تُعاش بالبر ليست حكرًا على الرجال، بل هي للرجال والنساء على السواء.»
(Paedagogus, I.4)
“The virtue of man and woman is the same. For if the God of both is one, the master of both is also one; one church, one temperance, one modesty; their food is common, marriage an equal yoke… For the life that is lived in righteousness is not for men only, but for men and women alike.”
كما يشير إلى وجوب ممارسة المرأة للفضائل تمامًا كما الرجل:
🔹«على المرأة أن تمارس ضبط النفس والبرّ وسائر الفضائل، شأنها شأن الرجل…»
( Stromata, IV.8 )
“Accordingly woman is to practise self-restraint and righteousness, and every other virtue, as well as man…”
تُعد هذه التصريحات لاهوتية متقدّمة بالنسبة لسياقها التاريخي، إذ ترفض التمييز بين الجنسين في ممارسة الفضيلة، وتُرسّخ مبدأ شمولية البر والخلاص للجميع دون تمييز جنسي.
2- المساواة في الطبيعة الإنسانية والروح
يؤكّد كليمندس أن المرأة والرجل يشتركان في طبيعة بشرية واحدة، وبأنه لا يوجد اختلافاً جوهريًا بين الجنسين في ما يتعلق بالنعمة والفضيلة والخلاص:
🔹 «للمرأة نفس طبيعة الرجل، وكلاهما يشترك في نفس الفضيلة ونفس النعمة ونفس الخلاص.»
(Stromata, IV.19)
“For the woman has the same nature as the man, and they share in the same virtue, the same grace, and the same salvation.”
🔹«فيما يختصّ بالطبيعة البشرية، ليست للمرأة طبيعة تختلف عن الرجل، بل هما واحد؛ وكذلك الحال في الفضيلة…»
( Stromata, IV.8 )
“As far as human nature is concerned, woman does not possess one nature and man another … the same virtue is possible for both.”
🔹«لا يجب أن نخجل من أي من الجنسين… لأن اسم “الإنسان” (anthropos) مشترك بين الرجل والمرأة.»
( Stromata, IV.8 )
“We should not be ashamed of either sex… for the name ‘human being’ (anthropos) is common to both man and woman.”
ويذهب أبعد من ذلك في تأكيد وحدة الهدف النهائي بين الجنسين:
🔹«وقد تبيَّن أنّ للمرأة والرجل هدفًا واحدًا ونهاية واحدة من جهة الكمال…»
( Stromata, IV.8 )
“And one aim and one end, as far as regards perfection, being demonstrated to belong to the man and the woman…”
ويشدد على أن كمال الفضيلة متاح للرجل والمرأة على حد سواء، بل يضرب أمثلة من النساء اللواتي فُقنَ الرجال في الشجاعة والإيمان:
🔹«وفي هذا الكمال يستطيع الرجل والمرأة أن يشتركا بالتساوي.… فقد بلغت يهوديت كمالًا بين النساء… وأستير بلغت الكمال بالإيمان… وسوسنة فاقت الرجال في الشجاعة.»
( Stromata, IV.19 )
“In this perfection it is possible for man and woman equally to share. …But Judith too, who became perfect among women… Esther, perfect by faith… Susanna… surpassed men in valor.”
🔹«كثيراتٌ نلن قوّة بنعمة الله، وصنَعْنَ أعمالًا بطولية تُنسب عادةً للرجال.»
(Stromata, IV.19)
“Many women have received power through the grace of God and have performed many deeds of manly valor.”
كليمندس يستشهد بهذه النماذج النسائية البطولية من العهد القديم ليؤكّد أن الكرامة والكمال الخلقي ليسا حكرًا على الرجال، بل هما ممكنان لكلا الجنسين.
3- دعوة المرأة إلى الفلسفة والمعرفة
في سياق اجتماعي وثقافي كان يُقصي النساء عن مجالات التعليم والتفكير الفلسفي، برز كليمندس الإسكندري بموقف لافت، إذ دعا بوضوح إلى إشراك المرأة في الحياة العقلية والفكرية، وعارض الحصر التقليدي لدراسة الفلسفة في الرجال دون النساء.
في كتاب (Stromata)، يُقدّم كليمندس حجة منطقية مفادها أن المرأة، بما أنها قادرة على ممارسة فضائل مثل العفة وضبط النفس، وهي فضائل تتطلّب الحكمة، فلا مبرر لافتراض عجزها عن اكتساب الحكمة ذاتها. ومن هنا، يؤكد أن الفلسفة دعوة موجهة للنساء تمامًا كما هي موجهة للرجال:
🔹«هل يجب على المرأة أن تتفلسف؟ نعم… إذا كانت المرأة قادرة على الحشمة وضبط النفس، وهي فضائل تتطلب الحكمة، فهل لا تكون قادرة على الحكمة نفسها؟… يجب على النساء كما الرجال أن يسعوا إلى الفلسفة.»
(Stromata, IV. 8 )
“Ought the woman to philosophize? Yes… If, then, the woman is able to be temperate and self-restrained, which are virtues that require wisdom, will she not be able to be wise? …Women as well as men are to philosophize.”
يتّضح من هذا النص أن كليمندس لم يكتفِ بإقرار قدرة المرأة على التعقّل والتعلّم، بل طالب بمشاركتها الكاملة في المسيرة الفلسفية، معتبرًا السعي إلى الحكمة أمرًا مشتركًا بين الجنسين.
لم يكتفِ بالمساواة الروحية، بل طالب بالمساواة الفكرية. واستشهد بنساء شهيرات في التاريخ مثل “ثيانو” الفيثاغورية و”أسبازيا” كأمثلة على قدرة المرأة على التفوق الفكري.
4- دور المرأة وتعاليم العفّة عند كليمندس السكندري
تبرز في كتابات كليمندس السكندري، لاسيما في مؤلفه الستروماتا (Stromata), رؤية متّزنة تحترم مقام المرأة وتُعلّي من قيمة العفاف ضمن إطار الزواج المسيحي. فقد وقف كليمندس موقفًا نقديًا من بعض الاتجاهات الغنوصية التي حطّت من شأن الزواج، معتبرًا إياه تشريعًا إلهيًا يهدف إلى إنجاب نسل تقيّ، وليس مجرد انغماس في اللذة. يقول في هذا السياق:
🔹”الزواج طاهر، وإنجاب الأولاد هو عمل مقدس” (Stromata III, 6).
وفي معرض نقده لبعض الاتجاهات الغنوصية التي مجّدت التبتُّل على حساب الزواج، يؤكّد كليمندس أن البتولية ليست فضيلة مفروضة على الجميع، بل هي خيار يليق فقط بمن وُهِب عدم الشهوة، أما من لم يُمنح هذه العطيّة، فالأفضل له أن يتزوّج بحسب الشريعة:
🔹«البتولية لِمن لا يشتهي النساء، أما الباقي فليتزوج حسب الناموس.»
(Stromata III, 15).
كما يبرز احترام كليمندس للمرأة من خلال إشاراته إلى أدوار خدمية وروحية في حياة الكنيسة الأولى. ففي شهادة ينقلها المؤرخ أوسابيوس القيصري، يشير إلى أن كليمندس تحدّث عن نساء رافقن الرسل في مهامهم التبشيرية، ليس كزوجات، بل كأخوات وخادمات للكلمة وهو ما يعكس تأييده لانخراط النساء في بعض الوظائف الكنسية ضمن الحدود التي قررتها التقاليد الرسولية.
🔹«بعض النساء كنّ يرافقن الرسل في خدمتهن الإنجيلية، لا كزوجات بل كأخوات وخادمات للكلمة.»
(Historia Ecclesiastica VI, 14)
ولم يقف عند هذا الحد، بل عمد كليمندس إلى استحضار شخصيات نسائية بطولية كنماذج يُحتذى بها في الفضيلة والقدوة الاخلاقية. ففي موضع لافت من الستروماتا، يسرد قائمة من النساء اللواتي جسّدن الشجاعة والعفّة، من بينهن: يهوديت، وإستر، ودبّورة، وسارة، وكذلك شخصيات وثنية مثل تيموستراتا (زوجة بريكليس)، وكاميلا من الأساطير اللاتينية (Stromata IV, 19). ويعلّق قائلاً:
🔹”النساء قد برهنّ أنهن لا يَقِلَلْنَ شرفًا عن الرجال في مضمار الفضائل”.
(Stromata IV, 19)
كما يلجأ كليمندس أحيانًا إلى استخدام صور رمزية أنثوية في التعبير عن العناية الالهية. ففي احد المواضع التأملية في كتابه (المربّي) يُشبّه محبة المسيح وحنانه بـ”الحليب الذي يخرج من ثديي الآب”، في إشارة إلى الغذاء الروحي الذي يقدّمه الله لمؤمنيه (Paedagogus I, 6). وتُعدّ هذه الاستعارة تعبيرًا عن رقة وحنان العناية الإلهية، وليست تجسيدًا لأنوثة الله أو طابعًا حرفيًا، بل تُجسّد العناية الإلهية الشاملة، حيث تتم رعاية المؤمنين بالكلمة كما يُغذَّى الأطفال بالحليب.
5- شراكة المرأة الروحية والزوجية بوصفها شراكة مقدّسة
رأى كليمندس أن المرأة ليست مجرد معين منزلي، بل شريك روحي فعّال للرجل في درب القداسة والخلاص:
🔹«الزوجة، كما نقول، هي مُعين للرجل. ومن الواضح أنها مُعين في أمور الأسرة والأطفال، ولكن أيضًا وقبل كل شيء، هي شريك له في طريق الحياة إلى الله.»
هذا التصوّر بحسب اكليمندس يرفع من مقام المرأة من كونها مكمّلة اجتماعيًا فقط، إلى شريكة روحيّة في مشروع الخلاص
🔹خلاصة فكر القديس كليمندس السكندري
• مساواة جوهرية: رأى أن الرجال والنساء متساوون في الطبيعة، والروح، والفضيلة، والقدرة على نيل الخلاص.
• احترام فكري: شجع النساء على طلب العلم والفلسفة، معتبرًا إياهن قادرات على الحكمة تمامًا كالرجال.
• رفض العار: فكرته عن “العار” كانت مرتبطة بالسلوك غير المحتشم (للجنسين)، وليس بطبيعة المرأة.
• شراكة مقدسة: اعتبر المرأة شريكًا أساسيًا للرجل في الأسرة وفي الحياة الروحية.
بإيجاز، تكشف كتابات القديس كليمندس السكندري عن رؤية تكرّم المرأة وتمنحها مكانة لاهوتية متساوية مع الرجل في الإيمان المسيحي. فهو لم يكن صوتًا معاديًا للمرأة، بل مثّل في زمنه موقفًا منصفًا ومضادًا لاتجاهات التهميش السائدة.
______________________________________

🔴 القسم الثاني: التحقيق في صحة القول المنسوب إلى كليمندس الإسكندري ومطابقته للنصوص الاصلية
يتضمن هذا القسم ما يلي:
• أولًا: البحث في مؤلفات كليمندس الإسكندري الأصلية
• ثانيًا: التوثيق من النصوص الأصلية وترجماتها
• ثالثا: تفنيد المزاعم الغنوصية ونسبة الأقوال المشوهة
أولًا: البحث في مؤلفات كليمندس الإسكندري الأصلية
بعد مراجعة دقيقة وشاملة لجميع مؤلفات كليمندس الإسكندري المتاحة، لم يتم العثور على أي عبارة تطابق القول المنسوب إليه حرفيًا: «كل امرأة يجب أن تخجل لأنها امرأة». أقرب ما وُجد هو مقطع وارد في كتاب المربّي (Paedagogus II.2.33.4)، حيث يتناول كليمندس موضوع آداب الشرب ويحثّ كلا من الرجال والنساء على اجتناب التصرفات المخزية، مع توصية خاصة للنساء بالتحلّي بالحشمة والحياء. يقول كليمندس في ذلك الموضع ما ترجمته:
🔹 «لا يليق برجلٍ عاقل أن يصدر عنه تصرف مشين أو صوت غير لائق، وبالأحرى لا يليق ذلك بامرأة، التي يكفيها إدراكها لطبيعتها ووعيها بذاتها لتستلهم الحياء والعفاف.»
وقد ورد النص اليوناني الأصلي كما يلي:
«…ᾗ καὶ τὸ συνειδέναι αὐτὴν ἑαυτῇ, ἥτις εἴη μόνον, αἰσχύνην φέρει.»
وترجمته الحرفية:
- τὸ συνειδέναι αὐτὴν ἑαυτῇ = “وعيها لذاتها”.
- ἥτις εἴη μόνον = “كونها هي فقط (ماهيتها/طبيعتها)”.
- αἰσχύνην φέρει = “يُورِث خجلًا/حياءً
🔹”حتى إن وعيها بذاتها، أي بما هي عليه، يورثها خجلًا/حياءً.”
هذا المقطع لا يعني بأي حال أن المرأة يجب أن تشعر بالخزي أو العار لمجرد كونها امرأة، بل يشير إلى الحياء كفضيلة أخلاقية طبيعية ترتبط بأنوثة المرأة، لا سيما في سياقات السلوك العام مثل الشرب والسُّكر. وبالتالي، فإن السياق يدور حول ضرورة التحلّي بالاحتشام والانضباط، لا عن ازدراء طبيعة المرأة أو تحقير جنسها.
علاوة على ذلك، وبعد بحث دقيق في باقي مؤلفات كليمندس مثل (Stromata و Protrepticus) وغيرها، لم يُعثر على عبارة مشابهة أو صيغة تقترب في معناها من هذا القول المنسوب إليه، ما يؤكد غياب أي أساس نصي يدعم هذا الادعاء.
ثانيًا: التوثيق من النصوص الأصلية وترجماتها
عند الرجوع إلى نص المربّي (Paedagogus) للقديس كليمندس الإسكندري، بحسب طبعة Patrologia Graeca, vol. 8, col. 429، بتحقيق Monsignor Jacques-Paul Migne، يتبين أن المقطع المعني يقع في الكتاب الثاني، الفصل الثاني (Book II, Chapter II). وقد تُرجم هذا النص إلى الإنجليزية ضمن سلسلة Ante-Nicene Fathers، كما ظهرت له ترجمة فرنسية حديثة تعكس المعنى التالي:
🔹 «لا يليق برجلٍ عاقل أن يصدر عنه تصرف مشين أو صوت غير لائق، وبالأحرى لا يليق ذلك بامرأة، التي يكفيها إدراكها لطبيعتها ووعيها بذاتها لتستلهم الحياء والعفاف.»
يتّضح من ذلك أن كليمندس يحثّ على الحياء بوصفه فضيلة فطرية إيجابية واخلاقية، لا كإدانة لوجود المرأة أو احتقار لأنوثتها او انتقاص لوجودها. ولا يتضمن هذا النص، ولا غيره من كتاباته أي تعبير صريح أو ضمني يفيد بأن الى انّ “كون المرأة امرأة هو بحد ذاته أمر معيب أو يستوجب الخجل.
ثالثا: تفنيد المزاعم الغنوصية ونسبة الأقوال المشوهة
في كتابه الستروماتا (Stromata)، يورد كليمندس مقولة منسوبة إلى السيد المسيح في أحد الكتابات الابوكريفية وهو ما يعرف بـ «إنجيل المصريين» (Gospel of the Egyptians)، نصها: «قد أتيتُ لأُخرِب أعمال الأنثى.»
غير أن كليمندس لم يتبنّ هذا القول كتعليم مسيحي، بل أورده في سياق نقده الحاد لتطرف بعض الغنوصيين الذين رفضوا الزواج والنسل.
وقد شدّد على أن الخلاص لا يتحقق من خلال “المعرفة الباطنية” الغنوصية، بل من خلال الإيمان البسيط، مؤكّدًا فضائل الزواج والاعتدال بدل الزهد المطلق.
لذا، فإن استخدام هذه العبارة في هذا السياق هو تمثيل لنقده للغنوصية وليس قبولًا أو دعمًا لها، ولا يمكن اعتبار هذه الأقوال تعبيرًا عن فكر كليمندس، بل هي أمثلة على أقوال نقدها ورفضها.
🔹الخلاصة
- لا يوجد في أي من مؤلفات كليمندس عبارة تُفيد أن المرأة يجب أن تشعر بالخزي لكونها امرأة.
- أقواله المعتمدة تُظهر احترامًا واضحًا للمرأة، وتأكيدًا على مساواتها في الطبيعة والفضيلة والخلاص.
- يُعدّ كليمندس من أوائل الكتّاب المسيحيين الذين قدّموا رؤية لاهوتية متوازنة تجاه المرأة، تتجاوز بوضوح الموروثات الفلسفية واليهودية التي انتقصت من شأنها.
______________________________________

🔴القسم الثالث: تتبع تاريخي وتحليلي لأصل وانتشار الاقتباس المنسوب إلى كليمندس الإسكندري
يتضمن هذا القسم النقاط التالية:
- أولا: أصل الاقتباس المزعوم وانتشاره في العصر الحديث
- ثانيا: تأويلات هذا الاقتباس وآراء باحثين حول تحريف الاقتباس المنسوب إلى كليمندس الإسكندري
- ثالثا: التتبّع المرجعي: من ووكر إلى بريفو (Briffault)
- رابعا: ملخص تحليل الباحث البريطاني روجر بيرس (Roger Pearse) حول الاقتباس المنسوب إلى كليمندس الإسكندري
- خامسا: كيف ساهم هذا التحريف في انتشار واسع للاقتباس المشوّه في التاريخ الثقافي المعاصر.
- سادسا: هل النص المنسوب خطأ إلى كليمندس… أصله عند ترتليان
اولا: أصل الاقتباس المزعوم وانتشاره في العصر الحديث
يتناول هذا الجزء الجذر النصي للاقتباس المنسوب إلى كليمندس، وتتبع ظهوره في المصادر الثانوية الحديثة، وتحليل السياقات التي استُخدم فيها بغرض نقد موقف كليمندس من المرأة.
بالنظر إلى أن كليمندس الإسكندري لم يذكر حرفيًا عبارة “كل امرأة ينبغي أن تخجل لأنها امرأة”، يبرز التساؤل حول مصدر هذه الصيغة التي انتشرت في العصر الحديث.
أقدم الإشارات إلى هذه العبارة تعود إلى القرن العشرين، وتحديدًا إلى كتاب Joseph Lewis المعنون The Ten Commandments (1946)، حيث نُسب القول إلى كليمندس مع الاعتماد على مرجع ثانوي.
هذا المرجع الثانوي هو كتاب (Henry Charles Lea) بعنوان History of Sacerdotal Celibacy (طبعة 1907)، إلا أنه عند مراجعة الصفحة 320 من هذا الكتاب تُظهر أنه لا يذكر كليمندس أصلًا، مما يشير إلى وجود خطأ في الإسناد أو انتحال في النقل.
وهكذا، يبدو أن هذه العبارة نشأت عن طريق تحريف أو سوء فهم، وانتقلت عبر كتب ومقالات عديدة دون التحقق من النصوص الأصلية.
ثانيا: تأويلات هذا الاقتباس وآراء باحثين حول تحريف الاقتباس المنسوب إلى كليمندس الإسكندري
1- يرجّح الباحث البريطاني روجر بيرس (Roger Pearse)، وهو باحث معاصر في تاريخ المسيحية المبكرة والأدب الآبائي، وقد عُرف بجهوده الواسعة في نشر نصوص آباء الكنيسة بلغاتها الأصلية، أن العبارة المنسوبة إلى كليمندس الإسكندري “كل امرأة ينبغي أن تخجل لأنها امرأة” ناتجة عن سوء فهم أو ترجمة مشوّهة لمقطع من كتابه المربّي (Paedagogus). ويشير (Roger Pearse) إلى أن هذه الصيغة المحرّفة انتشرت عبر عدة كتب ومقالات دون التحقق من النص الأصلي.
2- يؤكد (Roger Pearse) ان القوائم التي تهدف إلى تشويه السمعة من خلال الاقتباسات غالبًا ما تُهمِل السياق، وغالبًا ما تختلف في الصياغة ونسبتها إلى أصحابها. واقتباسنا هذا لا يختلف عن غيره في هذا الصدد. فبعضهم يقترح أنه مأخوذ من كتاب (Stromateis) أو المنوّعات (الكتاب الثالث) Miscellanies book 3 لكليمندس، لكنه في الواقع ليس كذلك ويُشير (Roger Pearse) إلى أنّ هذه الصيغة المشوّهة انتشرت في عدد من الكتب والمقالات المعاصرة دون الرجوع إلى النص الأصلي والتحقق من سياقه بدقة.
3- على سبيل المثال، يوضح (Roger Pearse) أن العبارة وردت ضمن مقال هجومي مليء بالكراهية بعنوان Twenty disgustingly misogynist quotes from religious leaders (عشرون اقتباسًا بغيضا من قادة دينيين) بقلم فاليري تاريكو (Valerie Tarico) نشر على موقع Salon عام 2014، مع إشارة إلى مقطع من كتابه (Paedagogus 2:33:2)، إلاّ أن (Roger Pearse) يؤكد أن الموقع لا يحتوي على النص المذكور بهذا المعنى أو الصياغة المتداولة.
4- كما يوضّح (Roger Pearse) ايضا إلى أن بعض الكتب الصادرة في الهند تستشهد بالفيلسوف برتراند راسل (Bertrand Russell) كمصدر للاقتباس، لكنه يشير إلى أن هذه الكتب تستند فقط إلى كتيّبه المؤيد للعلاقات غير الشرعية Marriage and Morality (1929)، والذي يخلو تمامًا من أي إشارة إلى كليمندس الإسكندري.
5- أما فيما يخص مصدرًا أكثر تحديدًا، فيُشير (Roger Pearse) إلى مقال بعنوان “الدين بوصفه جذر التمييز الجنسي” (Religion as the Root of Sexism) للكاتبة باربرا ج. ووكر (Barbara G. Walker)، نُشر في مجلة (Freethought Today) عام 2011. في هذا المقال، يُنسب إلى كليمندس الإسكندري قوله إن “على كل امرأة أن تشعر بالخزي لمجرد كونها امرأة”، كما يُربط هذا القول باقتباس منسوب إلى يسوع في إنجيل المصريين يقول فيه: «لقد أتيتُ لأدمّر أعمال الأُنثى».
ويضيف (Roger Pearse) أن باربارا ووكر (Barbara G. Walker) ، مؤلفة موسوعة The Woman’s Encyclopedia of Myths and Secrets (1983) وكتاب The Skeptical Feminist، نسبت هذه العبارة إلى كليمندس وربطتها بإنجيل المصريين، مما عزّز الانطباع الخاطئ بعدائها للمرأة.
ثالثا: التتبُّع المرجعي: من ووكر إلى بريفو (Briffault)
1- عند تتبّع مصدر الادعاء الذي اعتمدت عليه الكاتبة باربرا ج. ووكر (Barbara G. Walker)، يتبيّن أنها استندت إلى ما أورده المؤلف ر. بريفو (R. Briffault) في المجلد الثالث من كتابه The Mothers (Vol. 3, p. 373, New York: Macmillan, 1927). ويُلاحظ أن هذا النقل ليس مستندًا إلى أي من النصوص الأصلية لكليمندس الإسكندري، بل يأتي ضمن سلسلة من الاقتباسات غير المباشرة التي تفتقر إلى توثيق دقيق من المصادر الأولية، وهو ما يُضعف مصداقية الادعاء المنسوب إليه.
– في هذا الموضع، يورد بريفو الاقتباس التالي:
🔹«كل امرأة، كما يقول كليمندس الإسكندري، ينبغي أن تشعر بالخزي لمجرد كونها امرأة.»
2- يُحيل بريفو إلى المرجع التالي لتوثيق هذا الاقتباس المزعوم: كليمندس الإسكندري، كتاب “المربّي” (Paedagogus)، الجزء الثاني، الفصل الثاني، وذلك بحسب طبعة ميغن (Migne) ضمن سلسلة Patrologia Graeca، المجلد الثامن، العمود 429.
Clement of Alexandria, Paedagogus (The Instructor), Book II, Chapter II, in Patrologia Graeca, Vol. 8, col. 429 (ed. J.-P. Migne).
3- التحقق من المصدر الأصلي في Paedagogus II.2 (PG 8, col. 429):
أ- النص اليوناني:
«οὐδεὶς γὰρ ψόφος οἰκεῖος ἀνδρὶ λογικῷ, ἔτι δὲ μᾶλλον γυναικί, ᾗ καὶ τὸ συνειδέναι αὐτὴν ἑαυτῇ, ἥτις εἴη μόνον, αἰσχύνην φέρει.»
يعود فعل ψόφος إلى معنى “الصوت” أو “الجلبة”، وغالبًا ما يشير في السياق الأدبي الأخلاقي إلى الضجيج غير اللائق، كالأصوات أثناء الشرب أو تناول الطعام أو حتى حركة غير مهذبة، لذا يُنظر إليها كرمز للتصرف غير المحتشم.
- οἰκεῖος = لائق، مناسب، ملائم
- λογικῷ = العاقل أو صاحب العقل.
- γυναικί = للمرأة.
- συνειδέναι αὐτὴν ἑαυτῇ = وعي المرأة بطبيعتها أو إدراكها لذاتها.
- αἰσχύνην φέρει = يجلب الحياء/ يثير الخجل.
ب- الترجمة في سلسلة Ante-Nicene Fathers (ANF):
“Nothing disgraceful is proper for a man endowed with reason; much less for a woman, to whom even the consciousness of her own nature brings a feeling of shame.”
ج- الترجمة الفرنسية في سلسلة Sources Chrétiennes (SC 108, p. 71):
“Il ne convient pas de faire du bruit (en buvant), ni à un homme raisonnable, ni encore moins à une femme, à qui le fait d’avoir conscience elle-même de ce qu’elle est, suffit à inspirer de la pudeur.”
ومن خلال مقارنة الترجمات المعتمدة (الإنجليزية والفرنسية) مع النص اليوناني الأصلي، نرى أنها تتّفق جميعًا على المعنى التالي:
🔹«لا يليق برجلٍ عاقل أن يصدر عنه صوت مزعج أو تصرف غير لائق، وبالأحرى لا يليق ذلك بامرأة، إذ يكفيها مجرد وعيها بذاتها وطبيعتها لتبعث في نفسها شعور الحياء والعفّة.»
4- الاقتباس الذي ينسبه بريفو إلى كليمندس الإسكندري لا يرد بصيغته تلك في نصه، بل هو تحوير واختزال مجتزأ لعبارة أطول ذات سياق أخلاقي وسلوكي محدد.
5- كليمندس يتحدّث هنا عن الحياء الطبيعي المرتبط بالسلوك بوصفه فضيلة طبيعية لدى المرأة، تنبع من وعيها الداخلي بذاتها، لا عن “الخزي” كموقف دوني من طبيعتها الأنثوية.
6- كما أنه يتناول الحياء الطبيعي المرتبط بالسلوك ضمن سياق الحديث عن اللياقة والاحتشام، لا عن “الخزي” بوصفه حكمًا وجوديًا على طبيعة المرأة.
وبناءً عليه، فإن النقل الذي يفرغ العبارة من سياقها ويحوّلها إلى تصريح عدائي ضد المرأة يُعد تشويهًا صريحًا للمعنى الأصلي.
رابعا: ملخص تحليل الباحث البريطاني والمختص بتاريخ المسيحية المبكرة والنصوص الآبائية، والشهير بنشر النصوص القديمة بلغاتها الأصلية وتحقيقها روجر بيرس (Roger Pearse) حول الاقتباس المنسوب إلى كليمندس الإسكندري
1. يرى الباحث روجر بيرس (Roger Pearse) أن الاقتباس الشهير المنسوب إلى كليمندس الإسكندري، والذي مفاده أن «كل امرأة يجب أن تشعر بالخجل لمجرد كونها امرأة»، لا يعكس مضمون النصوص الأصلية لكليمندس، بل هو نتاج سوء فهم وتحريف للنص الأصلي.
2. سياق النص الأصلي
يشير (Roger Pearse) إلى أن كليمندس، كما سائر آباء الكنيسة، كان يكتب ضمن معايير زمنه، الذي اعتُبر فيه شرب الخمر والسلوك الصاخب للنساء من الممارسات المرفوضة اجتماعيًا.
ويُبرز أن النص الأصلي في كتاب المربّي (Paedagogus) يتناول بالأساس موضوع السلوك غير اللائق في حالة السُّكر، مع تأكيد خاص على ضرورة شعور الإنسان العقلاني بالخجل والحياء من مثل هذا السلوك، وخصوصًا النساء.
بهذا المعنى، كان كليمندس يتحدث عن الحياء الطبيعي المرتبط بالسلوك، لا عن “الخزي” كموقف وجودي يُنقص من مكانة المرأة أو طبيعتها الأنثوية.
3. الهدف الأخلاقي والاجتماعي لكليمندس
يوضح (Roger Pearse) أن كليمندس والآباء الأوائل كانوا يهدفون إلى رفع مستوى كرامة النساء الأخلاقية والاجتماعية، مهاجمين الممارسات الفاسدة والسلوكيات التي تنال من هذه الكرامة، وليس التقليل من شأن المرأة نفسها.
وهذا يتوافق مع خطابهم العام الذي يسعى إلى تحسين مكانة المرأة في المجتمع عبر التوجيه الأخلاقي والروحي.
4. تحريف النص واستخدامه في أجندات فكرية معاصرة
يشير (Roger Pearse) إلى أن ر. بريفو (R. Briffault) أعاد صياغة النص الأصلي بأسلوب أكثر إثارة وصراحة، بهدف استخدامه كأداة في أجندته الخاصة التي تدعو إلى الترويج للانحلال الأخلاقي، مستغلاً الاقتباس ضمن قائمة صادمة من أقوال الآباء.
وهكذا، تحولت العبارة إلى “عبارة واحدة لافتة” تستخدم في نقد موجه للتراث الديني والآبائي، بعيدًا عن سياقها الحقيقي.
5. تحريفات لاحقة وتأثيرها
يشير (Roger Pearse) كذلك إلى أن التحريفات اللاحقة للنص الأصلي أدت إلى تداول صيغ أكثر حدة واستفزازًا، لا أساس لها في النصوص الأصلية لكليمندس.
وهذا يشير إلى وجود مشكلات في منهج تتبع المصادر، حيث كثيرًا ما تعتمد الدراسات الحديثة على مصادر ثانوية غير دقيقة أو اختزالات للنصوص الأصلية.
6. النقد النهائي
يخلص (Roger Pearse) إلى أن مثل هذه التحريفات لا تخدم الدراسة الأكاديمية الموضوعية، بل تندرج في إطار الاستقطاب السياسي أو الثقافي الذي يضر بفهم التراث الديني والآبائي بشكل صحيح.
كما يؤكد أن الخطأ لا يبدأ بالضرورة مع الباحثين المعاصرين، بل قد يكون ناتجًا عن اختزالات أو تحريفات أقدم في المصادر الثانوية.
وبالتالي نستنتج من كتاباته بأنّ:
- الاقتباس المنسوب إلى كليمندس ليس دقيقًا نصيًا أو سياقيًا.
- النص الأصلي يتحدث عن الحياء والسلوك اللائق لا عن خزي وجودي للمرأة.
- التحريفات الحديثة استخدمت العبارة لأغراض فكرية وسياسية، مغايرة للسياق الأصلي.
- ضرورة العودة إلى النصوص الأصلية وتوخي الدقة في تتبع المصادر لمنع سوء الفهم والتحريف.
خامسا: بعد أن أوردنا التدقيق النصي والتاريخي للنص المنسوب إلى كليمندس الإسكندري (Clement of Alexandria)، كما قدمه الباحث (Roger Pearse) ، نتابع كيف ساهم هذا التحريف في انتشار واسع للاقتباس المشوّه في التأريخ الثقافي المعاصر، إذ وجد طريقه إلى عدد من المؤلفات الحديثة دون مراجعة علمية للنص الأصلي.
فقد ورد الاقتباس الشهير «كل امرأة يجب أن تشعر بالخجل لمجرد كونها امرأة» في كتاب (Misogyny) للمؤلف ديفيد غيلمور (David Gilmore)، الذي استند بدوره إلى مصدر ثانوي أقدم، وهو كتاب (The Fear of Women) الصادر عام 1968 لعالم النفس ولفغانغ ليدرر (Wolfgang Lederer). يُعد عمل ليدرر تحليلًا نفسيًا ولا يمثل دراسة نقدية أكاديمية متخصصة في علم الآبائيات (Patristics).
تتجلّى المشكلة المنهجية في هذه الدراسات الثانوية التي تعتمد على مصادر غير دقيقة، حيث لا يتعامل (Wolfgang Lederer) مع النصوص الآبائية الأصلية بمنهج نقدي صارم، بل يستخدم اقتباسات أو ملخصات منقولة غالباً ما تكون خارجة عن سياقها الاصلي. وقد أصبحت اقتباساته، رغم ضعف توثيقها، مرجعًا متداولًا في بعض الأعمال النقدية المهتمة برصد مواقف الكنيسة من المرأة دون العودة الدقيقة للمصادر الأصلية لكليمندس الإسكندري أو غيره من آباء الكنيسة.
سادسا: هل النص المنسوب خطأ إلى كليمندس… أصله عند ترتليان
1- أما المصدر الذي يُستشهد به خطأ لتبرير صورة سلبية للمرأة في التراث الآبائي، فلا يعود في الغالب إلى كليمندس الإسكندري كما يُشاع، بل يقال انه يعود إلى نص شهير للكاتب المسيحي ترتليان في مؤلفه De Cultu Feminarum (“عن زينة النساء”). وقد استند بعض النقّاد إلى هذا النص تحديدًا في اتهام ترتليان بالعداء للمرأة، لا سيما حين استحضر صورة حواء بوصفها “باب الشيطان”، حيث قال:
🔹«ألا تعلمين أنكِ حواء؟ لا يزال حكم الله معلقًا على جنسك. أنتِ بوابة الشيطان؛ أنتِ أول من خرق ناموس الله؛ أنتِ التي أغويت من لم يكن الشيطان شجاعًا ليهاجمه. لقد دمرتِ صورة الله، الإنسان؛ وجلبتِ الموت إلى العالم.»
Tertullian, De Cultu Feminarum, Chapter 1:
“Knowest thou not that thou art Eve? The judgment of God still hangs over thy sex. Thou art the gate of the devil; thou didst first break the law of God; thou didst seduce him whom the devil was not valiant to attack. Thou hast destroyed the image of God, man; and didst bring death into the world.”
لكن قراءة متأنية تكشف أن هذا الحكم العام غير منصف، لأن هذا الاقتباس غالبًا ما يُنتزع من سياقه الأخلاقي والروحي، ويُحمَّل بدلالات لم يقصدها ترتليان ضمن بنيته اللاهوتية والتربوية.
2- فهم السياق اللاهوتي والروحي
من بين أكثر مؤلفات ترتليان تعرضًا للانتقاد هو كتابه De Cultu Feminarum، إذ يُتهم فيه بأنه يعبّر عن موقف سلبي تجاه المرأة. غير أن هذا التفسير يتجاهل السياق الزمني والأدبي واللاهوتي الذي كُتب فيه هذا العمل، بل ويُخرجه من إطاره المقصود. ترتليان لم يكتب هذا الكتاب بقصد الإهانة أو الإدانة الأخلاقية للمرأة، بل كان دافعه الأساس هو دعوة النساء المسيحيات إلى التواضع والزهد في الزينة المفرطة، وتوجيه أنظارهن نحو ما هو أثمن وأبقى: الإيمان بقيم الملكوت السماوي (De Cultu Feminarum, I.1–2).
3- تحليل قول ترتليان:
- الرابط المباشر بالخطيئة: يربط ترتليان كل امرأة بشكل مباشر بخطيئة حواء.
- الشعور بالذنب والعار: على الرغم من أنه لا يستخدم عبارة “امتلئي بالعار”، إلا أن وصف المرأة بأنها “بوابة الشيطان” وأنها سبب موت المسيح هو دعوة صريحة للشعور بالذنب والعار الوجودي، لمجرد كونها امرأة تنتمي لـ “جنس حواء”.
لكن هذه الفكرة اللاهوتية، التي تُعدّ خلاصةً لموقف ترتليان، لا يمكن بحالٍ من الأحوال نسبتها إلى كليمندس الإسكندري. فعبارة «المرأة يجب أن تخجل من كونها امرأة» هي تحريفٌ لموقف ترتليان، لا كليمندس، بل وتمثل أيضًا اختزالًا غير دقيقٍ – بل ومشوّهًا أحيانًا – لفكر ترتليان نفسه، كما يظهر في بعض القراءات الحديثة التي عمدت إلى اقتطاع العبارة من سياقها الجدلي واللاهوتي، مما أدى إلى إساءة فهم موقفه الحقيقي.
فالفكرة المركزية التي يُدافع عنها ترتليان هنا هي أن حياة الإنسان، رجالاً ونساءً، ينبغي أن تنسجم مع جوهر الإيمان المسيحي القائم على ترك الأرضيات والتعلّق بالسماويات. صحيح أنه بدأ بأسلوب حاد، لكن الجزء اللاحق من الكتاب اتخذ طابعًا تربويًا، وأبرز صلة أخوية صادقة، خاصة حين خاطب النساء مرارًا بعبارة sorores dilectissimae (“الأخوات المحبوبات جدًا”)، مما يُظهر علاقته الودّية بهن، لا عداءه لهن.
لذا،فإن تقييم هذا العمل ينبغي أن يتم وفقًا لسياقه اللاهوتي والزمني، لا من خلال إسقاطات ثقافية حديثة قد تحرّف مقاصده التربوية. فالأسلوب التوبيخي، وإن بدا قاسيًا بمعايير اليوم، كان مألوفًا في العظات المسيحية المبكرة، ويُوجَّه أحيانًا للرجال والنساء على حد سواء بحسب موضع الضعف أو الخطر الروحي.
4- ترتليان: خطاب متوازن في مواضع أخرى
في المقابل، إننا نجد في كتابات ترتليان الأخرى ما يعكس احترامه للمرأة وتقديره لها، وأوضح الأمثلة على ذلك رسالته Ad Uxorem (“إلى زوجتي”)، التي كتبها بين عامي 197 و206، ويُعد العمل الوحيد الذي يناقش فيه أخلاقيات الزواج. وقد افتتحه بهذه الكلمات:
🔹”رأيتُ أنه من المناسب، يا شريكتي المحبوبة في الرب، أن أوجه إليك من الآن بعض النصائح حول المسار الذي ينبغي عليكِ أن تسلكيه بعد رحيلي عن هذا العالم، إن سبقْتُكِ إليه؛ وأن أستودعكِ أمانة الالتزام بهذه النصائح.”
تتكرر في هذا النص عبارات تعبّر عن مودّة صادقة مثل:
- محبوبتي (dilectissime mihi)
- الأخوات المحبوبات جدًا (sorores dilectissimae)
- شريكة في الرب (in Domino conserva)
يدل على شركة روحية تقوم على المودّة والإيمان، كما يبرهن على أن رؤيته للمرأة لم تكن دونية جوهرًا، بل تربوية وسياقية، تحكمها ظروف التوجيه والتعليم الروحي.
في المجمل، تكشف القراءة النقدية لأعمال ترتليان مثل:
- عن زينة النساء (De Cultu Feminarum)
- تغطية العذارى (De Virginibus Velandis)
- الزواج الأحادي (De Monogamia)
أن هدفه لم يكن الحطّ من كرامة المرأة، بل توجيهها نحو حياة الفضيلة والقداسة، ضمن معايير روحية صارمة تعبّر عن تصوّره النسكي للإيمان المسيحي.
وبهذا نستنتج ان القول المنسوب إلى كليمندس السكندري غير موثق إطلاقًا في أعماله، بل يُخالف توجهه العام الداعي إلى مساواة جوهرية بين الرجل والمرأة في الطبيعة والفضيلة والخلاص، والفقرات التي نسبها بعضهم إلى كليمندس الإسكندري — والتي تزعم أن “المرأة يجب أن تخجل من كونها امرأة” — لا أساس لها في نصوص كليمندس، بل تمثل إما تحريفًا أو إسقاطًا خاطئًا.
أما النصوص التي يتم الاستشهاد بها من ترتليان، فيجب أن تُفهم ضمن أطرها اللاهوتية والتربوية لا من خلال اجتزاءات حديثة. فترتليان، رغم لغته التوبيخية أحيانًا، لم يكن يكنّ عداءً للمرأة، بل كان يرشدها كأخت في الإيمان نحو حياة القداسة.
🔴 الخاتمة
يتضح من الدراسة والتحقيق النصي الدقيق أن القول المنسوب إلى القديس كليمندس الإسكندري «كل امرأة ينبغي أن تخجل لأنها امرأة» لا أساس له في كتاباته الأصلية، ولا يتوافق مع توجهه الفكري والروحي الذي يؤكد على المساواة الجوهرية بين الرجل والمرأة في الطبيعة والكرامة والفضيلة.
إن هذا الادعاء، الذي شاع نتيجة لسوء فهم وتحريف لمقاطع نصية، وانتقل عبر مصادر ثانوية غير دقيقة، يُعد مثالاً صارخًا على مخاطر اعتماد الاقتباسات المنزوعة عن سياقها أو المنسوبة خطأً إلى شخصيات تاريخية بارزة دون تحقق علمي. مصدر الخطأ ناتج من سوء فهم أو نقل غير دقيق في مؤلفات تحليلية وتبعه تداول غير نقدي من باحثين آخرين.
ويُظهر تحليل النصوص أن ما ورد في أعمال كليمندس هو دعوة للحياء والفضيلة والأخلاق، لا ازدراء لطبيعة المرأة أو تقليل من قيمتها، وهو موقف يعكس انفتاحًا وتقديرًا مميزًا لمكانة المرأة، لا سيما في ظل الظروف الثقافية والاجتماعية لتلك الحقبة.
لذلك، فإن تصحيح هذه المفاهيم الخاطئة واستعادة المعنى الحقيقي للنصوص الأصلية أمر ضروري لفهم دقيق للتراث الفكري والروحي، وللحد من انتشار تحريفات تُستغل لإثارة الفتن وتشويه سمعة شخصيات دينية وأدبية بارزة.
كليمندس يُعدّ، في سياق عصره، من أكثر آباء الكنيسة انفتاحًا وتقديرًا لمكانة المرأة على المستويين الروحي والفكري، فلا يجوز نسبة هذه العبارة إلى كليمندس السكندري دون دليل نصي، وهذا يعدّ مثالًا واضحًا على خطر تداول “الاقتباسات المنزوعة من سياقها” أو المنسوبة خطأ لكتّاب لم يقولوها مطلقًا.
——–
David D. Gilmore, Misogyny: The Male Malady, Harvard University Press, 2001, p. 173.
Wolfgang Lederer, The Fear of Women, Harcourt, Brace & World, 1968, pp. 162–163.
Clement of Alexandria, Paedagogus (The Instructor), in The Ante-Nicene Fathers, Vol. 2, translated by William Wilson, Hendrickson Publishers, 1994 (reprint), Book I, Chapter 4; Book II, Chapter 2.
Clement of Alexandria, Stromata (Miscellanies), in The Ante-Nicene Fathers, Vol. 2, translated by William Wilson, Book IV, Chapters 8 and 19.
Sirach 26:25 (Septuagint).
Tertullian, De Cultu Feminarum (On the Apparel of Women), in The Ante-Nicene Fathers, Vol. 4, translated by S. Thelwall, Book II, Chapter 1.
Roger Pearse, “Is the quote ‘Every woman ought to be filled with shame…’ really by Clement?”:
Patrologia Graeca (PG), Vol. 8, col. 429.
Cambridge University Press, Selected translations from Clement of Alexandria’s works.
Tertullian. Greek/Latin texts and translations.
Joseph Lewis, The Ten Commandments, 1946.
Henry Charles Lea, History of Sacerdotal Celibacy, 1907.
Barbara G. Walker, The Woman’s Encyclopedia of Myths and Secrets, 2011.
R. Briffault, The Mothers: A Study of the Origins of Sentiments and Institutions, 1927.
Catholic library
memraayhwh.wordpress.
assets.cambridge
.wikipedia (Clement of Alexandria)
Roger Pearse .. Did Clement of Alexandria say that “Every woman should be overwhelmed with shame at the thought that she is a woman”?
ليكون للبركة
Patricia Michael



